سنة ست وتسعين وخمسمائة عظم قدره، ثم استوزره بعد الصنيعة بن النجار، فحل عنده محل الوزراء الكبار والعلماء المشاورين، وباشر الوزارة بسطوة وجبروت وتعاظم، وصادر كتاب الدولة واستصفى أموالهم، ففرّ منه القاضي الأشرف ابن القاضي الفاضل إلى بغداد، واستشفع بالخليفة الناصر، وأحضر كتابه إلى الملك العادل يشفع فيه، وهرب منه القاضي علم الدين إسماعيل بن أبي الحجاج صاحب ديوان الجيش، والقاضي الأسعد أسعد بن مماتي صاحب ديوان المال، والتجآ إلى الملك الظاهر بحلب، فأقاما عنده حتى ماتا، وصادر بني حمدان وبني الحباب وبني الجليس، وأكابر الكتاب، والسلطان لا يعارضه في شيء، ومع ذلك فكان يكثر التغضب على السلطان ويتجنى عليه وهو يحتمله إلى أن غضب في سنة سبع وستمائة، وحلف أنه ما بقي يخدم، فلم يحتمله، وولى الوزارة عوضا عنه القاضي الأعز فخر الدين مقدام بن شكر، وأخرجه من مصر بجميع أمواله وحرمه وغلمانه، وكان نقله على ثلاثين جملا، وأخذ أعداؤه في إغراء السلطان به وحسنوا له أن يأخذ ماله، فأبى عليهم ولم يأخذ منه شيئا، وسار إلى آمد فأقام بها عند ابن أرتق إلى أن مات الملك العادل في سنة خمسين وستمائة، فطلبه الملك الكامل محمد بن الملك العادل لما استبدّ بسلطنة ديار مصر بعد أبيه، وهو في نوبة قتال الفرنج على دمياط حين رأى أن الضرورة داعية لحضوره بعد ما كان يعاديه، فقدم عليه في ذي القعدة منها وهو بالمنزلة العادلية قريبا من دمياط، فتلقاه وأكرمه وحادثه فيما نزل به من موت أبيه ومحاربة الفرنج ومخالفة الأمير عماد الدين أحمد بن المشطوب، واضطراب أرض مصر بثورة العربان، وكثرة خلافهم، فشجعه وتكفل له بتحصيل المال وتدبير الأمور، وسار إلى القاهرة فوضع يده في مصادرات أرباب الأموال بمصر والقاهرة من الكتاب والتجار، وقرّر على الأملاك مالا، وأحدث حوادث كثيرة، وجمع مالا عظيما أمدّ به السلطان، فكثر تمكنه منه وقويت يده وتوفرت مهابته، بحيث أنه لما انقضت نوبة دمياط وعاد الملك الكامل إلى قلعة الجبل كان ينزل إليه ويجلس عنده بمنظرته التي كانت على الخليج، ويتحدّث معه في مهمات الدولة، ولم يزل على ذلك إلى أن مات بالقاهرة وهو وزير في يوم الجمعة ثامن شعبان سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وكان بعيد الغور جماعا للمال ضابطا له من الإنفاق في غير واجب، قد ملأت هيبته الصدور، وانقاد له على الرغم والرضي الجمهور، وأخمد جمرات الرجال، وأضرم رمادا لم يخطر إيقاده على بال، وبلغ عند الملك الكامل بحيث أنه بعث إليه بابنيه الملك الصالح نجم الدين أيوب، والملك العادل أبي بكر ليزوراه في يوم عيد فقاما على رأسه قياما، وأنشد زكيّ الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن وهيب القوصيّ قصيدة زاد فيها حين رأى الملكين قياما على رأسه:
لو لم تقم لله حقّ قيامه ... ما كنت تقعد والملوك قيام
وقطع في وزارته الأرزاق، وكانت جملتها أربعمائة ألف دينار في السنة، وتسارع