أيوب عليه، ورحل إلى مصر وقد فسد ما بينه وبين الأشرف وغيره، وأخذ ملك الروم الرها وحران بالسيف، فتجهز الكامل وخرج بعساكره من القاهرة في سنة ثلاث وثلاثين وسار إلى الرها ونازلها حتى أخذها وهدم قلعتها، وأخذ حران بعد قتال شديد، وبعث بمن كان فيها من الروم إلى القاهرة في القيود وكانوا زيادة على ثلاثة آلاف نفس، ثم خرج إلى دنيسر وعاد إلى دمشق وسار منها إلى القاهرة فدخلها في سنة أربع وثلاثين، ثم خرج في سنة خمس وثلاثين ونزل على دمشق وقد امتنعت عليه، فضايقها حتى أخذها من أخيه الملك الصالح إسماعيل، وعوّضه عنها بعلبك وبصرى وغيرهما في تاسع عشر جمادى الأولى، ونزل بالقلعة وأخذ يتجهز لأخذ حلب، وقد نزل به زكام فدخل في ابتدائه الحمّام فاندفعت الموادّ إلى معدته فتورم وثارت فيه حمّى، فنهاه الأطباء عن القيء وحذروه منه فلم يصبر وتقيأ فمات لوقته في آخر نهار الأربعاء حادي عشري رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة، عن ستين سنة منها ملكه أرض مصر نحو أربعين سنة، استبدّ فيها بعد موت أبيه مدّة عشرين سنة وخمسة وأربعين يوما.
وكان يحب العلم وأهله ويؤثر مجالستهم، وشغف بسماع الحديث النبويّ، وحدّث وبنى دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وكان يناظر العلماء ويمتحنهم بمسائل غريبة من فقه ونحو، فمن أجاب عنها حظي عنده، وكان يبيت عنده بقلعة الجبل عدّة من أهل العلم على أسرّة بجانب سريره ليسامروه، وكان للعلم والأدب عنده نفاق، فقصده الناس لذلك، وصار يطلق الأرزاق الدارة لمن يقصده لهذا، وكان مهابا حازما سديد الرأي حسن التدبير عفيفا عن الدماء، وكان يباشر أمور مملكته بنفسه من غير اعتماد على وزير ولا غيره، ولم يستوزر بعد الصاحب صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكر أحدا، وإنما كان ينتدب من يختاره لتدبير الأشغال ويحضر عنده الدواوين ويحاسبهم بنفسه، وإذا ابتدأت زيادة النيل خرج وكشف الجسور ورتب الأمراء لعملها، فإذا انتهى عمل الجسور خرج ثانيا وتفقدها بنفسه، فإن وقف فيها على خلل عاقب متوليها أشدّ العقوبة، فعمرت أرض مصر في أيامه عمارة جيدة، وكان يخرج من زكوات الأموال التي تجبى من الناس سهمي الفقراء والمساكين، ويعين مصرف ذلك لمستحقيه شرعا، ويفرز منه معاليم الفقهاء والصلحاء، وكان يجلس كلّ ليلة جمعة مجلسا لأهل العلم فيجتمعون عنده للمناظرة، وكان كثير السياسة حسن المداراة، وأقام على كل طريق خفراء لحفظ المسافرين، إلّا أنه كان مغرما بجمع المال مجتهدا في تحصيله، وأحدث في البلاد حوادث سماها الحقوق لم تعرف قبله، ومن شعره قوله رحمه الله تعالى:
إذا تحققتم ما عند صاحبكم ... من الغرام فداك القدر يكفيه
أنتم سكنتم فؤادي وهو منزلكم ... وصاحب البيت أدرى بالذي فيه
وقال له الطبيب علم الدين أبو النصر جرجس بن أبي حليقة في اليوم الذي مات فيه،