بهجة المساجد ولا أنس بيوت العبادات شيء البتة، وذلك أن أقبغا عبد الواحد اغتصب أرض هذه المدرسة بأن أقرض ورثة أيدمر الحليّ مالا، وأمهل حتى تصرّفوا فيه ثم أعسفهم في الطلب وألجأهم إلى أن أعطوه دارهم، فهدمها وبنى موضعها هذه المدرسة، وأضاف إلى اغتصاب البقعة أمثال ذلك من الظلم، فبناها بأنواع من الغصب والعسف، وأخذ قطعة من سور الجامع حتى ساوى بها المدرسة الطيبرسية، وحشر لعملها الصناع من البنائين والنجارين والحجارين والمرخمين والفعلة، وقرّر مع الجميع أن يعمل كل منهم فيها يوما في كلّ أسبوع بغير أجرة، فكان يجتمع فيها في كل أسبوع سائر الصناع الموجودين بالقاهرة ومصر، فيجدّون في العمل نهارهم كله بغير أجرة، وعليهم مملوك من مماليكه ولّاه شدّ العمارة، لم ير الناس أظلم منه ولا أعتى ولا أشدّ بأسا ولا أقسى قلبا ولا أكثر عنتا، فلقي العمال منه مشقات لا توصف، وجاء مناسبا مولاه. وحمل مع هذا إلى هذه العمارة سائر ما يحتاج إليه من الأمتعة وأصناف الآلات وأنواع الاحتياجات من الحجر والخشب والرخام والدهان وغيره من غير أن يدفع في شيء منه ثمنا البتة، وإنما كان يأخذ ذلك إما بطريق الغصب من الناس، أو على سبيل الخيانة من عمائر السلطان. فإنه كان من جملة ما بيده شدّ العمائر السلطانية، وناسب هذه الأفعال أنه ما عرف عنه قط أنه نزل إلى هذه العمارة إلّا وضرب فيها من الصناع عدّة ضربا مؤلما، فيصير ذلك الضرب زيادة على عمله بغير أجرة، فيقال فيه: كملت خصالك هذه بعماري.
فلما فرغ من بنائها جمع فيها سائر الفقهاء وجميع القضاة، وكان الشريف شرف الدين عليّ بن شهاب الدين الحسين بن محمد بن الحسين نقيب الأشراف ومحتسب القاهرة حينئذ، يؤمّل أن يكون مدرّسها، وسعى عنده في ذلك فعمل بسطا على قياسها بلغ ثمنها ستة آلاف درهم فضة، ورشاه بها ففرشت هناك، ولما تكامل حضور الناس بالمدرسة وفي الذهن أنّ الشريف يلي التدريس، وعرف أنه هو الذي أحضر البسط التي قد فرشت، قال الأمير أقبغا لمن حضر: لا أولي في هذه الأيام أحدا، وقام فتفرّق الناس، وقرّر فيها درسا للشافعية ولي تدريسه ... «١» ودرسا للحنفية ولي تدريسه ... «٢» وجعل فيها عدّة من الصوفية ولهم شيخ، وقرّر بها طائفة من القرّاء يقرءون القرآن بشباكها، وجعل فيها عدّة من الصوفية ولهم وفرّاشين وقومة ومباشرين، وجعل النظر للقاضي الشافعيّ بديار مصر، وشرط في كتاب وقفه أن لا يلي النظر أحد من ذريته، ووقف على هذه الجهات حوانيت خارج باب زويلة بخط تحت الربع، وقرية بالوجه القبلي. وهذه المدرسة عامرة إلى يومنا هذا، إلّا أنه تعطل منها الميضأة وأضيفت إلى ميضأة الجامع لتغلّب بعض الأمراء بمواطأة بعض النظار على بئر الساقية التي كانت برسمها.