كثيرا وألقى كلوتته عن رأسه إلى الأرض وقال لفرّاشه: الدنيا فانية، يا ليتنا متنا ولا رأينا هذا اليوم، فترجل من حضر من الأمراء ورفعوا كلوتته ووضعوها على رأسه، ورجع من فوره ومعه الحاج بهادر إلى ناحية الشام وقد ندم على تشييع المظفر بيبرس، فجدّ في سيره إلى أن عبر دمشق، وفي نفس السلطان منه كونه لم يحضر مع بيبرس، وكان قد أراد القبض عليه، فبعث الأمير نوغاي القبجاقيّ أميرا بالشام ليكون له عينا على الأمير قراسنقر، ففطن قراسنقر لذلك وشرع نوغاي يتحدّث في حق قراسنقر بما لا يليق حتى ثقل عليه مقامه، فقبض عليه بأمر السلطنة وسجن بقلعة دمشق، ثم إن السلطان صرفه عن نيابة دمشق وولاه نيابة حلب بسؤاله، وذلك في المحرّم سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وكتب السلطان إلى عدّة من الأمراء بالقبض عليه مع الأمير أرغون الدوادار، فلم يتمكن من التحدّث في ذلك لكثرة ما ضبط قراسنقر أموره ولازمه عند قدومه عليه بتقليد نيابة حلب، بحيث لم يتمكن أرغون من الحركة إلى مكان إلّا وقراسنقر معه، فكثر الحديث بدمشق أن أرغون إنما حضر لمسك قراسنقر، حتى بلغ ذلك الأمراء، وسمعه قراسنقر، فاستدعى بالأمراء وحضر الأمير أرغون فقال قراسنقر: بلغني كذا وها أنا أقول إن كان حضر معك مرسوم بالقبض عليّ فلا حاجة إلى فتنة، أنا طائع السلطان، وهذا سيفي خذه، ومدّ يده وحل سيفه من وسطه. فقال أرغون وقد علم أن هذا الكلام مكيدة وأن قراسنقر لا يمكن من نفسه: إني لم أحضر إلا بتقليد الأمير نيابة حلب بمرسوم السلطان، وسؤال الأمير، وحاشا لله أن السلطان يذكر في حق الأمير شيئا من هذا. فقال قراسنقر: غدا نركب ونسافر. وانفض المجلس فبعث إلى الأمراء أن لا يركب أحد منهم لوداعه، ولا يخرج من بيته، وفرّق ما عنده من الحوائص ومن الدراهم على مماليكه ليتحملوا به على أوساطهم، وأمرهم بالاحتراس، وقدّم غلمانه وحواشيه في الليل وركب وقت الصباح في طلب عظيم، وكانت عدّة مماليكه ستمائة مملوك قد جعلهم حوله ثلاث حلقات، وأركب أرغون إلى جانبه وسار على غير الجادّة حتى قارب حلب، ثم عبرها في العشرين من المحرّم وأعاد أرغون بعد ما أنعم عليه بألف دينار وخلعة وخيل وتحف، وأقام بمدينة حلب خائفا يترقب، وشرع يعمل الحيلة في الخلاص، وصادق العربان، واختص بالأمير حسام الدين مهنا أمير العرب وبابنه موسى، وأقدمه إلى حلب وأوقفه على كتب السلطان إليه بالقبض عليه، وأنه لم يفعل ذلك ولم يزل به حتى أفسد ما بينه وبين السلطان، ثم أنه بعث يستأذن السلطان في الحج، فأعجب السلطان ذلك وظنّ أنه بسفره يتم له التدبير عليه لما كان فيه من الاحتراز الكبير، وأذن له في السفر وبعث إليه بألفي دينار مصرية، فخرج من حلب ومعه أربعمائة مملوك معدّة بالفرس والجنيب والهجن، وسار حتى قارب الكرك، فبلغه أن السلطان كتب إلى النوّاب وأخرج عسكرا من مصر إليه، فرجع من طريق السماوة إلى حلب وبها الأمير سيف الدين قرطاي نائب الغيبة، فمنعه من العبور إلى المدينة ولم يمكن أحدا من مماليك قراسنقر أن يخرج إليه، وكانت مكاتبة السلطان قد