وقفها مصروفا لذريته، فجاءت في أحسن هندام وأتم قالب وأفخر زيّ وأبدع نظام، إلّا أنها وما فيها من الآلات وما وقف عليها أخذ من الناس غصبا، وعمل فيها الصناع بأبخس أجرة مع العسف الشديد.
فلما قبض عليه السلطان وقتله في جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، واستولى على أمواله، حسّن جماعة للسلطان أن يهدم هذه المدرسة ورغبوه في رخامها، فإنه غاية في الحسن، وأن يسترجع أوقافها، فإن متحصلها كثير. فمال إلى ذلك وعزم عليه. فكرّه ذلك للسلطان الرئيس فتح الدين فتح الله كاتب السرّ، واستشنع أن يهدم بيت بني على اسم الله يعلن فيه بالأذان خمس مرّات في اليوم والليلة، وتقام به الصلوات الخمس في جماعة عديدة، ويحضره في عصر كل يوم مائة وبضعة عشر رجلا يقرءون القرآن في وقت التصوّف، ويذكرون الله ويدعونه، وتتحلق به الفقهاء لدرس تفسير القرآن الكريم وتفسير حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفقه الأئمة الأربعة، ويعلّم فيه أيتام المسلمين كتاب الله عز وجلّ، ويجري على هؤلاء المذكورين الأرزاق في كل يوم، ومن المال في كل شهر، ورأى أن إزالة مثل هذا وصمة في الدين، فتجرّد له وما زال بالسلطان يرغّبه في إبقائها على أن يزال منها اسم جمال الدين وتنسب إليه، فإنه من الفتن هدم مثلها. ونحو ذلك، حتّى رجع إلى قوله وفوّض أمرها إليه، فدبر ذلك أحسن تدبير.
وهو أنّ موضع هذه المدرسة كان وقفا على بعض الترب، فاستبدل به جمال الدين أرضا من جملة أراضي الخراج بالجيزة، وحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم بصحة الاستبدال، وهدم البناء وبنى موضعه هذه المدرسة، وتسلّم متولي موضعها الأرض المستبدل بها، إلى أن قتل جمال الدين وأحيط بأمواله، فدخل فيما أحيط به هذه الأرض المستبدل بها، وادّعى السلطان أن جمال الدين افتأت عليه في أخذ هذه الأرض، وأنه لم يأذن في بيعها من بيت المال، فأفتى حينئذ محمد شمس الدين المدنيّ المالكيّ بأن بناء هذه المدرسة الذي وقفه جمال الدين على الأرض التي لم يملكها بوجه صحيح لا يصح، وأنه باق على ملكه إلى حين موته، فندب عند ذلك شهود القيمة إلى تقويم بناء المدرسة، فقوّموها باثني عشر ألف دينار ذهبا، وأثبتوا محضر القيمة على بعض القضاة، فحمل المبلغ إلى أولاد جمال الدين حتى تسلموه وباعوا بناء المدرسة للسلطان، ثم استردّ السلطان منهم المبلغ المذكور وأشهد عليه أنه وقف أرض هذه المدرسة بعد ما استبدل بها، وحكم حاكم حنفيّ بصحة الاستبدال، ثم وقف البناء الذي اشتراه وحكم بصحته أيضا، ثم استدعى بكتاب وقف جمال الدين ولخصه، ثم مزقه وجدّد كتاب وقف يتضمن جميع ما قرّره جمال الدين في كتاب وقفه من أرباب الوظائف ومالهم من الخبز في كل يوم ومن المعلوم في كل شهر، وأبطل ما كان لأولاد جمال الدين من فائض الوقف، وأفرد لهذه المدرسة مما كان جمال الدين جعله وقفا عليها عدّة مواضع تقوم بكفاية مصروفها، وزاد في أوقافها أرضا بالجيزة،