وصار يزعج نفسه ويصرخ من الأساس إلى الأساس، فحدّق الناس بالنظر إليه ولم يدروا ما خبره، وافترقوا في أمره. فقائل هذا مجنون، وقائل هذه إشارة لشيء. فلما خرج الخطيب أمسك عن الصياح، وطلب بعد انقضاء الصلاة فلم يوجد. وخرج الناس إلى باب الجامع فرأوا النهابة ومعهم أخشاب الكنائس وثياب النصارى وغير ذلك من النهوب، فسألوا عن الخبر فقيل: قد نادى السلطان بخراب الكنائس، فظنّ الناس الأمر كما قيل، حتى تبين بعد قليل أن هذا الأمر إنما كان من غير أمر السلطان، وكان الذي هدم في هذا اليوم من الكنائس بالقاهرة، كنيسة بحارة الروم، وكنيسة بالبندقانيين، وكنيستين بحارة زويلة. وفي يوم الأحد الثالث من يوم الجمعة الكائن فيه هدم كنائس القاهرة ومصر، ورد الخبر من الأمير بدر الدين بيلبك المحسنيّ والي الإسكندرية، بأنه لما كان يوم الجمعة تاسع ربيع الآخر بعد صلاة الجمعة، وقع في الناس هرج، وخرجوا من الجامع وقد وقع الصياح: هدمت الكنائس- فركب المملوك من فوره فوجد الكنائس قد صارت كوما، وعدّتها أربع كنائس، وأن بطاقة وقعت من والي البحيرة بأن كنيستين في مدينة دمنهور هدمتا والناس في صلاة الجمعة من هذا اليوم، فكثر التعجب من ذلك، إلى أن ورد في يوم الجمعة سادس عشرة الخبر من مدينة قوص بأن الناس عند ما فرغوا من صلاة الجمعة في اليوم التاسع من شهر ربيع الآخر، قام رجل من الفقراء وقال يا فقراء اخرجوا إلى هدم الكنائس، وخرج في جمع من الناس فوجدوا الهدم قد وقع في الكنائس، فهدمت ست كنائس كانت بقوص وما حولها في ساعة واحدة، وتواتر الخبر من الوجه القبليّ والوجه البحريّ بكثرة ما هدم في هذا اليوم وقت صلاة الجمعة وما بعدها من الكنائس والأديرة، في جميع إقليم مصر كله، ما بين قوص والإسكندرية ودمياط، فاشتدّ حنق السلطان على العامّة خوفا من فساد الحال، وأخذ الأمراء في تسكين غضبه وقالوا: هذا الأمر ليس من قدرة البشر فعله، ولو أراد السلطان وقوع ذلك على هذه الصورة لما قدر عليه، وما هذا إلّا بأمر الله سبحانه، وبقدره لما علم من كثرة فساد النصارى وزيادة طغيانهم، ليكون ما وقع نقمة وعذابا لهم، هذا والعامّة بالقاهرة ومصر قد اشتدّ خوفهم من السلطان لما كان يبلغهم عنه من التهديد لهم بالقتل، ففرّ عدّة من الأوباش والغوغاء، وأخذ القاضي فخر الدين ناظر الجيش في ترجيع السلطان عن الفتك بالعامّة وسياسة الحال معه، وأخذ كريم الدين الكبير ناظر الخاص يغريه بهم إلى أن أخرجه السلطان إلى الإسكندرية بسبب تحصيل المال، وكشف الكنائس التي خربت بها.
فلم يمض سوى شهر من يوم هدم الكنائس حتى وقع الحريق بالقاهرة ومصر في عدّة مواضع، وحصل فيه من الشناعة أضعاف ما كان من هدم الكنائس، فوقع الحريق في ربع بخط الشوّايين من القاهرة، في يوم السبت عاشر جمادى الأولى، وسرت النار إلى ما حوله واستمرّت إلى آخر يوم الأحد، فتلف في هذا الحريق شيء كثير، وعند ما أطفيء وقع الحريق بحارة الديلم في زقاق العريسة بالقرب من دور كريم الدين ناظر الخاص، في خامس عشري