للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ليلة الجمعة النصف من جمادى، قبض على راهبين عند ما خرجا من المدرسة الكهارية بعد العشاء الآخرة، وقد اشتعلت النار في المدرسة، ورائحة الكبريت في أيديهما، فحملا إلى الأمير علم الدين الخازن والي القاهرة، فأعلم السلطان بذلك فأمر بعقوبتهما، فما هو إلّا أن نزل من القلعة وإذا بالعامّة قد أمسكوا نصرانيا وجد في جامع الظاهر ومعه خرق على هيئة الكعكة، في داخلها قطران ونفط، وقد ألقى منها واحدة بجانب المنبر، وما زال واقفا إلى أن خرج الدخان فمشى يريد الخروج من الجامع، وكان قد فطن به شخص وتأمّله من حيث لم يشعر به النصرانيّ، فقبض عليه وتكاثر الناس فجرّوه إلى بيت الوالي وهو بهيئة المسلمين، فعوقب عند الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، فاعترف بأن جماعة من النصارى قد اجتمعوا على عمل نفط وتفريقه مع جماعة من أتباعهم، وأنه ممن أعطي ذلك وأمر بوضعه عند منبر جامع الظاهر، ثم أمر بالراهبين فعوقبا فاعترفا أنهما من سكان دير البغل، وأنهما هما اللذان أحرقا المواضع التي تقدّم ذكرها بالقاهرة، غيرة وحنقا من المسلمين لما كان من هدمهم للكنائس، وأن طائفة النصارى تجمعوا وأخرجوا من بينهم مالا جزيلا لعمل هذا النفط. واتفق وصول كريم الدين ناظر الخاص من الإسكندرية، فعرّفه السلطان ما وقع من القبض على النصارى، فقال: النصارى لهم بطرك يرجعون إليه ويعرف أحوالهم، فرسم السلطان بطلب البطرك عند كريم الدين ليتحدّث معه في أمر الحريق وما ذكره النصارى من قيامهم في ذلك، فجاء في حماية والي القاهرة في الليل خوفا من العامّة، فلما أن دخل بيت كريم الدين بحارة الديلم وأحضر إليه الثلاثة النصارى من عند الوالي، قالوا لكريم الدين بحضرة البطرك والوالي جميع ما اعترفوا به قبل ذلك، فبكى البطرك عند ما سمع كلامهم وقال: هؤلاء سفهاء النصارى، قصدوا مقابلة سفهاء المسلمين على تخريبهم الكنائس، وانصرف من عند كريم الدين مبجلا مكرّما، فوجد كريم الدين قد أقام له بغلة على بابه ليركبها، فركبها وسار، فعظم ذلك على الناس وقاموا عليه يدا واحدة، فلولا أن الوالي كان يسايره وإلّا هلك، وأصبح كريم الدين يريد الركوب إلى القلعة على العادة، فلما خرج إلى الشارع صاحت به العامّة ما يحلّ لك يا قاضي تحامي للنصارى وقد أحرقوا بيوت المسلمين وتركبهم بعد هذا البغال، فشق عليه ما سمع وعظمت نكايته، واجتمع بالسلطان، فأخذ يهوّن أمر النصارى الممسوكين ويذكر أنهم سفهاء وجهال، فرسم السلطان للوالي بتشديد عقوبتهم، فنزل وعاقبهم عقوبة مؤلمة، فاعترفوا بأن أربعة عشر راهبا بدير البغل قد تحالفوا على إحراق ديار المسلمين كلها، وفيهم راهب يصنع النفط، وأنهم اقتسموا القاهرة ومصر، فجعل للقاهرة ثمانية، ولمصر ستة، فكبس دير البغل وقبض على من فيه وأحرق من جماعته أربعة بشارع صليبة جامع ابن طولون في يوم الجمعة، وقد اجتمع لمشاهدتهم عالم عظيم، فضرى من حينئذ جمهور الناس على النصارى وفتكوا بهم، وصاروا يسلبون ما عليهم من الثياب حتى فحش الأمر وتجاوزوا فيهم المقدار، فغضب السلطان من ذلك وهمّ أن يوقع

<<  <  ج: ص:  >  >>