حضر من الأمراء رحمة لهم، وما زالوا بالسلطان إلى أن قال للوالي: اعزل منهم جماعة، وانصب الخشب من باب زويلة إلى تحت القلعة بسوق الخيل، وعلّق هؤلاء بأيديهم. فلما أصبح يوم الأحد علق الجميع من باب زويلة إلى سوق الخيل، وكان فيهم من له بزة وهيئة، ومرّ الأمراء بهم فتوجعوا لهم وبكوا عليهم، ولم يفتح أحد من أرباب الحوانيت بالقاهرة ومصر في هذا اليوم حانوتا، وخرج كريم الدين من داره يريد القلعة على العادة فلم يستطع المرور على المصولبين، وعدل عن طريق باب زويلة، وجلس السلطان في الشباك وقد أحضر بين يديه جماعة ممن قبض عليهم الوالي فقطع أيدي وأرجل ثلاثة منهم والأمراء لا يقدرون على الكلام معه في أمرهم لشدّة حنقه، فتقدّم كريم الدين وكشف رأسه وقبّل الأرض وهو يسأل العفو، فقبل سؤاله وأمر بهم أن يعملوا في حفير الجيزة، فأخرجوا وقد مات ممن قطع أيديهم اثنان، وأنزل المعلقون من على الخشب.
وعند ما قام السلطان من الشباك وقع الصوت بالحريق في جهة جامع ابن طولون، وفي قلعة الجبل، وفي بيت الأمير ركن الدين الأحمديّ بحارة بهاء الدين، وبالفندق خارج باب البحر من المقس وما فوقه من الربع، وفي صبيحة يوم هذا الحريق قبض على ثلاثة من النصارى وجد معهم فتائل النفط، فأحضروا إلى السلطان واعترفوا بأن الحريق كان منهم، واستمرّ الحريق في الأماكن إلى يوم السبت، فلما ركب السلطان إلى الميدان على عادته، وجد نحو عشرين ألف نفس من العامّة قد صبغوا خرقا بلون أزرق وعلموا فيها صلبانا بيضا، وعند ما رأوا السلطان صاحوا بصوت عال واحد لا دين إلّا دين الإسلام، نصر الله دين محمد بن عبد الله، يا ملك الناصر، يا سلطان الإسلام انصرنا على أهل الكفر، ولا تنصر النصارى. فارتجت الدنيا من هول أصواتهم، وأوقع الله الرعب في قلب السلطان وقلوب الأمراء، وسار وهو في فكر زائد حتى نزل بالميدان وصراخ العامة لا يبطل، فرأى أن الرأي في استعمال المداراة، وأمر الحاجب أن يخرج وينادي بين يديه: من وجد نصرانيا فله ماله ودمه. فخرج ونادى بذلك، فصاحت العامّة وصرخت: نصرك الله. وضجوا بالدعاء، وكان النصارى يلبسون العمائم البيض، فنودي في القاهرة ومصر من وجد نصرانيا بعمامة بيضاء حلّ له دمه وماله، ومن وجد نصرانيا راكبا حلّ له دمه وماله، وخرج مرسوم بلبس النصارى العمامة الزرقاء، وأن لا يركب أحد منهم فرسا ولا بغلا، ومن ركب حمارا فليركبه مقلوبا، ولا يدخل نصرانيّ الحمام إلّا وفي عنقه جرس، ولا يتزيا أحد منهم بزيّ المسلمين، ومنع الأمراء من استخدام النصارى، وأخرجوا من ديوان السلطان. وكتب لسائر الأعمال بصرف جميع المباشرين من النصارى، وكثر إيقاع المسلمين بالنصارى حتى تركوا السعي في الطرقات، وأسلم منهم جماعة كثيرة، وكان اليهود قد سكت عنهم في هذه المدّة، فكان النصرانيّ إذا أراد أن يخرج من منزله يستعير عمامة صفراء من أحد من اليهود ويلبسها، حتى يسلم من العامّة، واتفق أن بعض دواوين النصارى كان له عند يهوديّ مبلغ أربعة آلاف درهم