حصل ذلك أن مدح نفسه، وكان الأفضل غيورا على كل شيء أشدّ ما عليه من يفتخر أو يلبس ثيابا مذكورة، ثم قال: هذه الآلات عظيمة، وخطرها جسيم ولا كلّ أحد يقوم عليها، ولا يحسنها، وأكثر الكلام والتوسعة، وقال: يحتاج أنّ الذي يتولى ذلك يعتمد معه الإنعام والإكرام لتطيب نفسه للمباشرة وينشرح صدره، ويقدح خاطره لما يعمل في حقه، فضجر الأفضل من ذلك، وقال: لقد أكثر في مدح نفسه ولدده وما يعاملنا بعد، لا حاجة إلى معاملته، فأشار القائد بن البطائحيّ، وقال: هنا من يبلغ الغرض بأسهل مأخذ، وأقرب وقت وأسرعه، وألطف معنى أبو سعيد بن قرقة الطبيب متولي خزائن السلاح والسروج والصناعات وغير ذلك، فأحضره للوقت فاتفق له من الحديث الحسن السهل، وما سبب عمل الآلات، ومن ابتدأها من الأول.
وذكر القدماء في العلم: ومن رصد منهم واحدا واحدا إلى آخرهم شرحا مستوفيا كأنه يحفظه ظاهرا، أو يقرأه من كتاب، فأعجب الأفضل والحاضرين، وقال: أيّ شيء تحتاج؟
فقال: ما أحتاج كبير أمر، والأمور سهلة وكلّ ما أحتاجه في خزائن السلطان خلد الله ملكه، النحاس والرصاص والآلات، وكلّ ما أحتاج أستدعيه أوّلا أوّلا، إلّا لنفقات وأجرة الصناع، فيتولاها غيري، فأعجب به. وقال: يطلق له جار لنفسه، فقال: أنا مستخدم في عدّة خدم فجواريّ تكفيني، فأنا مملوك الدولة ما أحتاج إلى جار، وإذا بلغت الغرض، وأنهيت الأشغال فهو المقصود. وكان قيل للأفضل، هذا الرصد يحتاج إلى أموال عظيمة، فقال: كم تقول يحتاج إليه؟ فقال: ما ينفق عليه إلا مثل ما ينفق عليه مسجد، أو مستنظر، فرجع يكرّر عليه القول، فقال: هاتوا ورقة، فكتب فيها المملوك يقبل الأرض وينهي دعت الحاجة إلى خروج الأمر العالي إلى دار الوكالة بإطلاق مائتي قنطار من النحاس الثجر وثمانين قنطارا من النحاس القضيب الأندلسيّ، وأربعين قنطارا من النحاس الأحمر ومن الرصاص ألف قنطار، ومن الحطب، ومن الحديد والفولاذ من الصناعة ما لعله يحتاج إليه، ومن الأخشاب ومن النفقة مائة دينار على يد شاهد ينفق عليه، فإذا فرغت أستدعي غيرها، وأختار موضعا يصلح الرصد فيه، ويكون العمل والصناعة فيه ومباشرة السلطان فيما يتوقف عليه وما يستأمر فيه، فاستصوب الأفضل جميع ذلك، وأراد أن يخلع عليه. فقال القائد: هذا فيما بعد إذا شوهدت أعماله، فخدم من أوّل الحال إلى آخرها، ولم يحصل له الدرهم الفرد لأنه كان يستحيي أن يطلب، وهو مستخدم عندهم، وكانوا بأجمعهم يؤملون طول المدّة والبقاء، فقتل الأفضل ثاني سنة وتغيرت الأحوال، ثم إنهم اختاروا للرصد مسجد التنور فوق المقطم، فوجدوه بعيدا عن الحوائج، فأجمعوا على سطح الحرف بالمسجد المعروف:
بالفيلة الكبير.
وكان قد صرف على المسجد خاصة ستة آلاف دينار، فحفروا في مسجد الفيلة نفرا في الجبل مكان الصهريج الآن، فعمل فيه قالب الحلقة الكبيرة وقطرها عشرة أذرع ودورها