تختلف لشدّة ما كانوا يحرّرونها بالشواقيل وعضادة الخشب، وتردّد إليها الأفضل مع كبر سنه، وهو يرتعش، والقائد يحمله إلى فوق، ويقعد زمانا من التعب لا يتكلّم ويده ترتعش، فرصدوا قدّامه، وفي خلال ذلك قتل الأفضل ليلة عيد الفطر سنة خمس عشرة وخمسمائة، وقيل للأفضل عن ابن قرقة: إنه أسرف في كبر الحلقة، وعظم مقدارها، فقال له الأفضل:
لو اختصرت منها كان أهون، فقال: وحق نعمتك لو أمكنني أن أعمل حلقة تكون رجلها الواحدة على الأهرام، والأخرى على التنور فعلت، فكلما كبرت الآلة صح التحرير، وأين هذا في العالم العلويّ، ثم أكثروا عليه، فعمل حلقة دونها في الموضع المهندم بالطوب الأحمر تحت المسجد الجيوشي، كان قطرها أقل من سبعة أذرع ودورها نحو أحد وعشرين ذراعا.
فلما كملت، قتل الأفضل، ولم ينفق من مال السلطان في الأجرة والمؤن، وما لا بدّ منه سوى نحو مائة وستين دينارا، فلما تمت الوزارة للمأمون البطائحيّ، أحب أن يكملها، ويقال له: الرصد المأموني المصحح، كما قيل للأوّل: الرصد المأموني الممتحن، فأخرج الأمر بنقل الرصد إلى باب النصر بالقاهرة، فنقل على الطريقة الأولى بالعتالين والأسطولية وطوائف الرجال، وكان يدفع لهم كل يوم برسم الغداء جملة دراهم، فلما صار فوق العجل مضوا به على الخندق من وراء الفتح على المشاهد إلى مسجد الذخيرة من ظاهر القاهرة، وتعبوا في دخوله من باب النصر تعبا عظيما لخوفهم أن يصدم فيتغير، فنصبوا الصواري على عقد باب النصر من داخل الباب، وتكاثر الرجال في جذب المياحين من أسفل، ومن فوق حتى وصل إلى السطح الكبير.
ثم نقلوه من السطح الكبير إلى السطح الفوقانيّ، وأوقفوا له العمد كما تقدّم ذكره، ورصدوا بالحلقة الكبرى كما رصدوا بها على سطح الجرف، فصح لهم ما أرادوا من حال الشمس فقط، ثم اهتموا بعمل ذات حلق يكون قطرها خمسة أذرع، وسبكت في فندق بالعطوفية من القاهرة، وكان الأمر فيها سهلا عندما لحقهم من العناء العظيم في الحلقة الكبيرة، والحلقة الوسطى، وتجرّد المأمون لعملها، والحثّ فيها، وكان ابن قرقة يحضر كل يوم دفعتين، ويحضر أبو جعفر بن جسنداي وأبو البركات بن أبي الليث صاحب الديوان وبيده الحل، والعقد فقال له المأمون: اطلع إليهم كل يوم وأيّ شيء طلبوه وقع لهم به من غير مؤامرة، وكان قصده ما أطمعوه فيه من أن يقال: الرصد المأمونيّ المصحح، فلو أراد الله أن يبقي المأمون قليلا كان كمل جميع رصد الكواكب، لكنه قبض عليه ليلة السبت ثالث شهر رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة، وكان من جملة ما عدّد من ذنوبه عمل الرصد المذكور، والاجتهاد فيه، وقيل: أطمعته نفسه في الخلافة بكونه سماه الرصد المأمونيّ، ونسبه إلى نفسه، ولم ينسبه إلى الخليفة الآمر بأحكام الله.