فملك بعده ابنه ايساد وهو ابن خمس وأربعين سنة: وكان جبارا طماح العين، فانتزى امرأة أبيه، وانكشف أمره معها، وكان أكبر همه اللهو واللعب، فجمع كل ملة في مملكته، ورفض العلوم، وأهمل أمر الهياكل والكهنة، وترك النظر في أحوال الناس، وبنى قصورا على النيل ليتنزه فيها، وأتلف أكثر الأموال في اللعب، فكرهه الناس، وكرههم إلى أن سمّوه، فمات عن مائة وعشرين سنة.
وملك بعده ابنه صا: ويقال: إنّ صا هو ابن مرقونس، وهو أخود أيساد، ولما ملك سكن منف، ووعد الناس بخير وملك الأحياز كلها، وعمل بها عجائب وطلسمات، وردّ الكهنة إلى مراتبهم ونفى الملهين وأهل الشرّ، ونصب العقاب الذي عمله أبوه وشرّف هيكله ودعا إليه وبنى بداخل الواحات مدينة ونصب قرب البحر أعلاما كثيرة، وجعل على الأطراف أصحاب أخبار يرفعون إليه ما يجري في حدودهم، وعمل على حافتي النيل مناير يوقد عليها إذا حزبهم أمر أو قصدهم أحد، وجعل بحافة بحر الملح منارا يعلم به أمر البحر، ويقال:
إنه بنى أكثر مدينة منف، وكل بنيان عظيم بالإسكندرية، وكان لما ملك البلد بأسره جمع الحكماء، ونظر في النجوم وكان بها حاذقا، فرأى أن مصر، لا بدّ أن تغرق من نيلها، وإنها تخرب على يد رجل يأتي من ناحية الشام، فجمع كل فاعل بمصر، وبنى مدينة في الواح الأقصى، وقصده ملك الإفرنجة، وملك منه مدينة منف، وقدم معه ألف مركب، وهدم أكثر الإسكندرية ودخل إلى النيل من رشيد حتى أخذ منف وفرّ منه صا إلى المدائن الداخلة، وتحصن بها من عدوّه، فامتنعت بالطلسمات أياما كثيرة، ثم كانت العاقبة له وعاد عدوّه منهزما، ورجع إلى منف فتتبع الكهنة وقتل منهم كثيرا، وأقام ملكا سبعا وستين سنة، وعاش مائة وسبعين سنة.
وملك ابنه تدراس: واستولى على الأحياز كلها وصفا له الوقت وملك مصر، وكان محتكما مجرّبا ذا أيد وقوّة ومعرفة بالأمور، فأظهر العدل وأقام الهياكل وأهلها قياما حسنا وبنى بيتا للزهرة، وحفر خليج سخا وحارب بعض عمالقة الشام، ودخل إلى فلسطين وقتل بها خلقا وسبى بعض أهلها إلى مصر، وغزا السودان من الزنج والحبشة ووجه في النيل بثلاثمائة سفينة فلقي السودان، وكانوا زهاء ألف ألف فهزمهم، وقتل أكثرهم وأسر منهم خلقا كثيرا، وساق الفيلة والنمور إلى مصر، وعمل على حدود بلده منارات زبر عليها اسمه ومسيره وظفره، وفي أيامه بعث الله نبيه صالحا إلى ثمود، ويقال: إنه هو الذي أنزل النوبة حيث هي، وذلك أنه لما أوغل في أرض الحبشة، وقتل أمم السودان وجد فيهم أمة تقرأ صحف آدم وشيث وإدريس فمنّ عليها، وأنزلها على نحو من شهر من أرض مصر، فسموا النوبة، ومات بمنف.
فملك بعده ابنه ماليق: وكان عاقلا كريما، حسن الصورة مجرّبا مخالفا لأبيه وأهل