للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في الجلاب إلى جدّة ساحل مكة، وكذلك تجار الهند واليمن والحبشة، يردون في البحر إلى عيذاب، ثم يسلكون هذه الصحراء إلى قوص، ومنها يردون مدينة مصر، فكانت هذه الصحراء لا تزال عامرة آهلة بما يصدر، أو يرد من قوافل التجار والحجاج، حتى إن كانت أحمال البهار كالقرفة والفلفل، ونحو ذلك لتوجد ملقاة بها والقفول صاعدة وهابطة لا يعترض لها أحد، إلى أن يأخذها صاحبها.

فلم تزل مسلكا للحجاج في ذهابهم وإيابهم، زيادة على مائتي سنة من أعوام بضع وخمسين وأربعمائة، إلى أعوام بضع وستين وستمائة، وذلك منذ كانت الشدّة العظمى في أيام الخليفة المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر، وانقطاع الحج في البرّ إلى أن كسا السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري، الكعبة وعمل لها مفتاحا، ثم أخرج قافلة الحاج من البرّ في سنة ست وستين وستمائة، فقلّ سلوك الحجاج لهذه الصحراء، واستمرّت بضائع التجار تحمل من عيذاب إلى قوص، حتى بطل ذلك بعد سنة ستين وسبعمائة، وتلاشى أمر قوص من حينئذ، وهذه الصحراء مسافتها من قوص إلى عيذاب سبعة عشر يوما، ويفقد فيها الماء ثلاثة أيام متوالية، وتارة يفقد أربعة أيام، وعيذاب مدينة على ساحل بحر جدّة، وهي غير مسوّرة، وأكثر بيوتها أخصاص، وكانت من أعظم مراسي الدنيا بسبب أنّ مراكب الهند واليمن تحط فيها البضائع، وتقلع منها مع مراكب الحجاج الصادرة والواردة، فلما انقطع ورود مراكب الهند واليمن إليها صارت المرسى العظيمة عدن من بلاد اليمن إلى أن كانت أعوام بضع وعشرين وثمانمائة، فصارت جدّة أعظم مراسي الدنيا، وكذلك هرمز، فإنها مرسى جليل، وعيذاب في صحراء لا نبات فيها، وكل ما يؤكل بها مجلوب إليها حتى الماء، وكان لأهلها من الحجاج والتجار فوائد لا تحصى، وكان لهم على كل حمل يحملونه للحجاج ضريبة مقرّرة، وكانوا يكارون الحجاج الجلاب التي تحملهم في البحر إلى جدّة، ومن جدّة إلى عيذاب، فيجتمع لهم من ذلك مال عظيم، ولم يكن في أهل عيذاب إلا من له جلبة فأكثر على قدر يساره.

وفي

بحر عيذاب، مغاص اللؤلؤ في جزائر قريبة منها تخرج إليها الغوّاصون في وقت معين من كل سنة، في الزوارق حتى يوافوه بتلك الجزائر، فيقيمون هنالك أياما، ثم يعودون بما قسم لهم من الحظ والمغاص فيها قريب القعر، وعيش أهل عيذاب، عيش البهائم، وهم أقرب إلى الوحش في أخلاقهم من الإنس، وكان الحجاج: يجدون في ركوبهم الجلاب على البحر أهوالا عظيمة لأنّ الرياح تلقيهم في الغالب بمراس في صحارى بعيدة مما يلي الجنوب، فينزل إليهم التجار من جبالهم، فيكارونهم الجمال، ويسلكون بهم على غير ماء، فربما هلك أكثرهم عطشا، وأخذ التجار ما كان معهم، ومنهم من يضلّ ويهلك عطشا،

<<  <  ج: ص:  >  >>