للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القبط، وخرجوا من باب القصر القبليّ، ودونهم جماعة يقاتلون العرب، فلحقوا بالجزيرة موضع الصناعة، وأمروا بقطع الجسر، وذلك في جري النيل.

ويقال: إنّ الأعيرج تخلف في الحصن بعد المقوقس، وقيل: خرج معهم، فلما خاف فتح الحصن ركب هو وأهل القوّة والشرف، وكانت سفنهم ملصقة بالحصن، ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة، فأرسل المقوقس إلى عمرو: إنكم قوم قد ولجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم، وجهزوا إليكم، ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم، فلا ينفعنا الكلام، ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم، ورجائكم فابعثوا إلينا رجالا من أصحابكم نعاملهم على ما نرضي نحن وهم به من شيء.

فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس، حبسهم عنده يومين وليلتين، حتى خاف عليهم المقوقس، فقال لأصحابه: أترون أنهم يقتلون الرسل، ويستحلون ذلك في دينهم؟

وإنما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين فردّ عليهم عمرو مع رسله، أنه ليس بيني وبينكم إلّا إحدى ثلاث خصال: إما أن دخلتم في الإسلام، فكنتم إخواننا، وكان لكم ما لنا، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم، وهو خير الحاكمين، فلما جاءت رسل المقوقس إليه، قال:

كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة، ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم، فقال عند ذلك المقوقس: والذي يحلف به لو أنّ هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم، وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبوا بعد اليوم إذ أمكنتهم الأرض، وقووا على الخروج من موضعهم، فردّ إليهم المقوقس رسله: ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم، ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم.

فبعث عمرو بن العاص: عشرة نفر، أحدهم: عبادة بن الصامت، وكان طوله عشرة أشبار، وأمره أن يكون متكلم القوم، ولا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلّا إحدى هذه الثلاث خصال، فإن أمير المؤمنين قد تقدّم إليّ في ذلك، وأمرني أن لا أقبل شيئا سوى خصلة من هذه الثلاث خصال، وكان عبادة أسود، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس، ودخلوا عليه تقدّم

<<  <  ج: ص:  >  >>