وكات له معه أمور آلت إلى خروج ابن المدبر عن مصر، وتقلد ابن طولون خراج مصر مع المعونة والثغور الشامية، فأسقط المعاون والمرافق، وكانت بمصر خاصة في كل سنة مائة ألف دينار، فأظفره الله عقيب ذلك، بكنز فيه ألف ألف دينار: بنى منه المارستان، وخرج إلى الشام، وقد تقلدها فتسلم دمشق وحمص، ونازل أنطاكية حتى أخذها، وكانت صدقاته على أهل المسكنة والستر، وعلى الضعفاء والفقراء، وأهل التجمل متواترة، وكان راتبه لذلك في كل شهر ألفي دينار سوى ما يطرأ عليه من النذور، وصدقات الشكر على تجديد النعم، وسوى مطابخه التي أقيمت في كل يوم للصدقات في داره وغيرها. يذبح فيها البقر والكباش، ويغرف للناس في القدور والفخار والقصاع على كل قدر أو قصعة لكل مسكين أربعة أرغفة في اثنين منها فالوذج، والاثنان الآخران على القدر، وكانت تعمل في داره، وينادي من أحبّ أن يحضر دار الأمير فليحضر، وتفتح الأبواب ويدخل الناس الميدان، وابن طولون في المجلس الذي تقدّم ذكره ينظر إلى المساكين، ويتأمل فرحهم بما يأكلون ويحملون، فيسرّه ذلك، ويحمد الله على نعمته.
ولقد قال له مرّة إبراهيم ابن قراطغان، وكان على صدقاته: أيّد الله الأمير إنّا نقف في المواضع التي تفرّق فيها الصدقة، فتخرج لنا الكف الناعمة المخضوبة نقشا، والمعصم الرائع فيه الحديدة، والكف فيها الخاتم فقال: يا هذا كل من مدّ يده إليك، فأعطه فهذه هي اللطيفة المستوردة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه فقال: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ
[البقرة/ ٢٧٣] فاحذر أن تردّ يدا امتدّت إليك، وأعط كل من يطلب منك.
فلما مات أحمد بن طولون، وقام من بعده ابنه خمارويه أقبل على قصر أبيه، وزاد فيه، وأخذ الميدان الذي كان لأبيه، فجعله كله بستانا، وزرع فيه أنواع الرياحين، وأصناف الشجر، ونقل إليه الودى اللطيف الذي ينال ثمره القائم، ومنه ما يتناوله الجالس من أصناف خيار النخل، وحمل إليه كل صنف من الشجر المطعم العجيب، وأنواع الورد، وزرع فيه الزعفران، وكسا أجسام النخل نحاسا مذهبا حسن الصنعة، وجعل بين النحاس، وأجساد النخل مزاريب الرصاص، وأجرى فيها الماء المدبر، فكان يخرج من تضاعيف، قائم النخل عيون الماء، فتنحدر إلى فساقي معمولة، ويفيض منها الماء إلى مجار تسقي سائر البستان، وغرس فيه من الريحان المزروع على نقوش معمولة، وكتابات مكتوبة يتعاهدها البستانيّ بالمقراض حتى لا تزيد ورقة على ورقة، وزرع فيه النيلوفر الأحمر، والأزرق والأصفر والجنوى العجيب، وأهدى إليه من خراسان وغيرها، كل أصل عجيب، وطعموا له شجر المشمش باللوز، وأشباه ذلك من كل ما يستظرف ويستحسن، وبنى فيه برجا من خشب الساج المنقوش بالنقر النافذ، ليقوم مقام الأقفاص، وزوّقه بأصناف الأصباغ وبلط أرضه، وجعل في تضاعيفه أنهارا لطافا جدا ولها يجري فيها الماء مدبرا من السواقي التي تدور على