فدخلت سنة أربع وستين، والحال على ذلك، وشادى قد استبدّ بأمر الدولة، وفسد ما بينه وبين ابن حمدان، ومنعه من المال الذي تقرّر له وشح به عليه، فلم يوصله إلى القليل، فجرد من ذلك ابن حمدان، وجمع العربان، وسار إلى الجيزة، وخادع شادي حتى صار إليه ليلا في عدّة من الأكابر، فقبض عليه وعليهم، وبعث أصحابه فنهبوا مصر، وأطلقوا فيها النار، فخرج إليهم عسكر المستنصر من القاهرة، وهزموهم، فعاد إلى البحيرة، وبعث رسولا إلى الخليفة القائم بأمر الله ببغداد بإقامة الخطبة له، وسأله الخلع والتشاريف فاضمحل أمر المستنصر، وتلاشى ذكره، وتفاقم الأمر في الشدّة من الغلاء، حتى هلكوا فسار ابن حمدان إلى البلد، وليس في أحد قوّة يمنعه بها، فملك القاهرة وامتنع المستنصر بالقصر، فسير إليه رسولا يطلب منه المال، فوجده، وقد ذهب سائر ما كان يعهده من أبهة الخلافة، حتى جلس على حصير، ولم يبق معه سوى ثلاثة من الخدم، فبلغه رسالة ابن حمدان، فقال المستنصر للرسول: ما يكفي ناصر الدولة أن اجلس في مثل هذا البيت على هذا الحال؟ فبكى الرسول رقة له، وعاد إلى ابن حمدان فأخبره بما شاهد من اتضاع أمر المستنصر، وسوء حاله، فكف عنه، وأطلق له في كل شهر مائة دينار، وامتدّت يده وتحكم وبالغ في إهانة المستنصر مبالغة عظيمة، وقبض على أمه وعاقبها أشد العقوبة، واستصفى أموالها، فحاز منها شيئا كثيرا، فتفرّق حينئذ عن المستنصر جميع أقاربه، وأولاده من الجوع فمنهم من سار إلى المغرب، ومنهم من سار إلى الشام والعراق.
قال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ «١» النسابة في كتاب النقط: حلّ بمصر غلاء شديد، في خلافة المستنصر بالله في سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وأقام إلى سنة أربع وستين وأربعمائة، وعمّ مع الغلاء وباء شديد، فأقام ذلك سبع سنين، والنيل يمدّ وينزل، فلا يجد من يزرع، وشمل الخوف من العسكرية، وفساد العبيد، فانقطعت الطرقات برّا وبحرا إلّا بالخفارة الكثيرة مع ركوب الغرر، ونزا المارقون بعضهم على بعض، واستولى الجوع لعدم القوت، وصار الحال إلى أن بيع رغيف من الخبز الذي وزنه رطل بزقاق القناديل:
كبيع الطرف في النداء بأربعة عشر درهما، وبيع أردب من القمح بثمانين دينارا، ثم عدم ذلك، وأكلت الكلاب والقطاط، ثم تزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضا، وكان بمصر طوائف من أهل الفساد قد سكنوا بيوتا قصيرة السقوف قريبة ممن يسعى في الطرقات ويطوف، وقد أعدّوا سلبا، وخطاطيف فإذا مرّ بهم أحد شالوه في أقرب وقت، ثم ضربوه بالأخشاب، وشرّحوا لحمه وأكلوه.
قال: وحدّثني بعض نسائنا الصالحات قالت: كانت لنا من الجارات امرأة ترينا أفخاذها، وفيها كالحفر، فكنا نسألها، فتقول: أنا ممن خطفني أكلة الناس في الشدّة،