عورات الناس إلى أن دخلت سنة أربع وستين، فجمع مري جمعا عظيما من أجناس الفرنج، وأقطعهم بلاد مصر، وسار يريد أخذ مصر، فبعث إليه شاور يسأله عن سبب مسيره، فاعتل بأنّ الفرنج غلبوه على قصد ديار مصر، وأنه يريد ألفي ألف دينار يرضيهم بها، وسار فنزل على بلبيس، وحاصرها حتى أخذها عنوة في صفر، فسبي أهلها، وقصد القاهرة، فسير العاضد كتبه إلى نور الدين، وفيها شعور نسائه وبناته يسأله إنقاذ المسلمين من الفرنج، وسار مري من بلبيس، فنزل على بركة الحبش، وقد انضم الناس من الأعمال إلى القاهرة، فنادى شاور بمصر أن لا يقيم بها أحد، وأزعج الناس في النقلة منها، فتركوا أموالهم وأثقالهم ونجوا بأنفسهم، وأولادهم وقد ماج الناس واضطربوا كأنما خرجوا من قبورهم إلى المحشر لا يعبأ والد بولده، ولا يلتفت أخ إلى أخيه، وبلغ كراء الدابة من مصر إلى القاهرة بضعة عشر دينارا، وكراء الحمل إلى ثلاثين دينارا، ونزلوا بالقاهرة في المساجد، والحمامات والأزقة وعلى الطرقات، فصاروا مطروحين بعيالهم وأولادهم، وقد سلبوا سائر أموالهم، وينتظرون هجوم العدوّ على القاهرة بالسيف، كما فعل بمدينة بلبيس، وبعث شاور إلى مصر بعشرين ألف قارورة نفط، وعشرة آلاف مشعل نار، فرّق ذلك فيها، فارتفع لهب النار ودخان الحريق إلى السماء، فصار منظرا مهولا، فاستمرّت النار تأتي على مساكن مصر من اليوم التاسع والعشرين من صفر لتمام أربعة وخمسين يوما، والنّهابة من العبيد، ورجال الأسطول وغيرهم بهذه المنازل في طلب الخبايا، فلما وقع الحريق بمصر، رحل مري من بركة الحبش، ونزل بظاهر القاهرة، مما يلي باب البرقية، وقاتل أهلها قتالا كثيرا، حتى زلزلوا زلزالا شديدا، وضعفت نفوسهم، وكادوا يؤخذون عنوة، فعاد شاور إلى مقاتلة الفرنج، وجرت أمور آلت إلى الصلح على مال، فبينا هم في جبايته إذ بلغ الفرنج مجيء أسد الدين شيركوه بعساكر الشام من عند السلطان نور الدين محمود، فرحلوا في سابع ربيع الآخر إلى بلبيس، وساروا منها إلى فاقوس، فصاروا إلى بلادهم بالساحل، ونزل شيركوه بالمقس خارج القاهرة، وكان من قتل شاور، واستيلاء شيركوه على مصر ما كان، فمن حينئذ خربت مصر الفسطاط هذا الخراب الذي هو الآن: كيمان مصر، وتلاشى أمرها، وافتقر أهلها، وذهبت أموالهم، وزالت نعمهم، فلما استبدّ شيركوه بوزارة العاضد، أمر بإحضار أعيان أهل مصر الذين خلوا عن ديارهم في الفتنة، وصاروا بالقاهرة، وتغمم لمصابهم وسفه رأي شاور في إحراق المدينة، وأمرهم بالعود إليها، فشكوا إليه ما بهم من الفقر والفاقة وخراب المنازل، وقالوا: إلى أيّ مكان نرجع؟ وفي أيّ مكان ننزل ونأوي؟
وقد صارت كما ترى، وبكوا وأبكوا، فوعدهم جميلا، وترفق بهم وأمر، فنودي في الناس بالرجوع إلى مصر، فتراجع إليها الناس قليلا وعمروا ما حول الجامع إلى أن كانت المحنة من الغلاء والوباء العظيم في سلطنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب لسنتي خمس وخمسمائة فخرب من مصر جانب كبير، ثم تحايا الناس بها، وأكثروا من العمارة بجانب