للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النظيف في اليوم الواحد، وإذا مرّ الإنسان في حاجة لم يرجع إلّا وقد اجتمع في وجهه ولحيته غبار كثير، ويعلوها في العشيات خاصة في أيام الصيف بخار كدر أسود وأغبر، سيّما إذا كان الهواء سليما من الرياح، وإذا كانت هذه الأشياء كما وصفنا، فمن البيّن أنه يصير الروح الحيوانيّ الذي فيها حالة كهذه الحال، فيتولد إذا في البدن من هذه الأعراض فضول كثيرة، واستعدادات نحو العفن إلّا أنّ ألف أهل الفسطاط لهذه الحال، وأنسهم بها يعوق عنهم أكثر شرّها، وإن كانوا على كل حال أسرع أهل مصر وقوعا في الأمراض، وما يلي النيل من الفسطاط، يجب أن يكون أرطب مما يلي الصحراء، وأهل الشرق أصلح حالا لتخرّق الرياح لدورهم، وكذلك عمل فوق والحمراء، إلّا أن أهل الشرف الذي يشربونه أجود لأنه يستقى قبل أن تخالطه عفونة الفسطاط، فأمّا القرافة فأجود هذه المواضع، لأن المقطم يعوق بخار الفسطاط من المرور بها، وإذا هبت ريح الشمال مرّت بأجزاء كثيرة من بخار الفسطاط، والقاهرة على الشرف، فغيرت حاله، وظاهر أن المواضع المكشوفة في هذه المدينة هي أصح هواء، وكذلك حال المواضع المرتفعة، وأردأ موضع في المدينة الكبرى هو ما كان من الفسطاط حول الجامع العتيق إلى ما يلي النيل والسواحل، وإذا كان في الشتاء وأوّل الربيع حمل من بحر الملح سمك كثير، فيصل إلى هذه المدينة، وقد عفن، وصارت له رائحة منكرة جدّا، فساغ في القاهرة، ويأكله أهلها وأهل الفسطاط، فيجتمع في أبدانهم منه فضول كثيرة عفنة، فلولا الاعتدال أمزجتهم وصحة أبدانهم في هذا الزمان لكان ذلك يولد في أبدانهم أمراضا كثيرة، قاتلة، إلّا أن قوّة الاستمرار تعوق عن ذلك، وربما انقطع النيل في آخر الربيع، وأوّل الصيف من جهة الفسطاط، فيعفن بكثرة ما يلقي فيه إلى أن يبلغ عفنه إلى أن تصير له رائحة منكرة محسوسة، وظاهر أن هذا الماء إذا صار على هذه الحال، غيّر مزاج الناس تغيرا محسوسا. قال: فمن البيّن أن أهل هذه المدينة الكبرى بأرض مصر أسرع وقوعا في الأمراض من جميع أهل هذه الأرض ما خلا أهل الفيوم، فإنها أيضا قريبة، وأردأ ما في المدينة: الموضع الغائر من الفسطاط، ولذلك غلب على أهلها الحين، وقلة الكرم، وأنه ليس أحد منهم يغيث، ولا يضيف الغريب إلا في النادر، وصاروا من السعاية والاغتياب على أمر عظيم، ولقد بلغ بهم الجبن إلى أنّ خمسة أعوان تسوق منهم مائة رجل وأكثر، ويسوق الأعوان المذكورين: رجل واحد من أهل البلدان الأخر، وممن قد تدرّب في الحرب، فقد استبان إذا العلة والسبب في أن صار أهل المدينة الكبرى بأرض مصر أسرع وقوعا في الأمراض من جميع أهل هذه الأرض، وأضعف أنفسا، ولعل لهذا السبب اختار القدماء: اتخاذ المدينة في غير هذا الموضع، فمنهم من جعلها بمنف، وهي: مصر القديمة، ومنهم من جعلها بالإسكندرية، ومنهم من جعلها بغير هذه المواضع، ويدل على ذلك آثارهم.

وقال ابن سعيد عن كتاب الكمائم: وأما فسطاط مصر فإنّ مبانيها كانت في القديم

<<  <  ج: ص:  >  >>