للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جملة عظيمة لا عهد لي بمثلها في بلد، فركب منها حمارا، وأشار إليّ أن اركب حمارا آخر، فأنفت من ذلك جريا على عادة ما خلّفته في بلاد المغرب، فأعلمني أنه غير معيب على أعيان مصر، وعاينت الفقهاء وأصحاب البزة والسادة الظاهرة يركبونها فركبت، وعندما استويت راكبا أشار المكاري على الحمار، فطار بي، وأثار من الغبار الأسود، ما أعمى عيني، ودنس ثيابي، وعاينت ما كرهته، ولقلة معرفتي بركوب الحمار، وشدّة عدوه على قانون لم أعهده، وقلة رفق المكاري، وقفت في تلك الظلمة المثارة من ذلك العجاج فقلت:

لقيت بمصر أشدّ البوار ... ركوب الحمار وكحل الغبار

وخلفي مكار يفوق الريا ... ح لا يعرف الرفق بهمي استطار

أناديه مهلا فلا يرعوي ... إلى أن سجدت سجود العثار

وقد مدّ فوقي رواق الثرى ... وألحد فيه ضياء النهار

فدفعت إلى المكاري أجرته، وقلت له: إحسانك إليّ أن تتركني أمشي على رجليّ، ومشيت إلى أن بلغتها، وقدّرت الطريق بين القاهرة والفسطاط، وحققت بعد ذلك نحو الميلين، ولما أقبلت على الفسطاط أدبرت عني المسرّة، وتأمّلت أسوار مثلمة سوداء، وآفاقا مغبرّة، ودخلت من بابها، وهو دون غلق مفض إلى خراب معمور بمبان سيئة الوضع غير مستقيمة الشوارع، قد بنيت من الطوب الأدكن والقصب، والنخيل طبقة فوق طبقة، وحول أبوابها من التراب الأسود، والأزبال ما يقبض نفس النظيف، ويغض طرف الطريف، فسرت وأنا معاين لاستصحاب تلك الحال إلى أن سرت في أسواقها الضيقة، فقاسيت من ازدحام الناس فيها بحوائج السوق والروايا التي على الجمال ما لا يفي به إلّا مشاهدته ومقاساته إلى أن انتهيت إلى المسجد الجامع، فعاينت من ضيق الأسواق التي حوله ما ذكرت به ضدّه في جامع إشبيلية، وجامع مراكش، ثم دخلت إليه فعاينت جامعا كبيرا قديم البناء غير مزخرف، ولا محتفل في حصره التي تدور مع بعض حيطانه، وتبسط فيه، وأبصرت العامّة رجالا ونساء قد جعلوه معبرا بأوطئة أقدامهم يجوزون فيه من باب إلى باب ليقرب عليهم الطريق، والبياعون يبيعون فيه أصناف المكسرات والكعك، وما جرى مجرى ذلك، والناس يأكلون منه في أمكنة عديدة غير محتشمين لجري العادة عندهم بذلك، وعدّة صبيان بأواني ماء يطوفون على من يأكل قد جعلوا ما يحصل لهم منهم رزقا، وفضلات مآكلهم مطروحة في صحن الجامع، وفي زواياه والعنكبوت قد عظم نسجه في السقوف والأركان والحيطان، والصبيان يلعبون في صحنه، وحيطانه مكتوبة بالفحم، والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتب فقراء العامّة إلّا أن مع هذا كله على الجامع المذكور من الرونق، وحسن القبول، وانبساط النفس، ما لا تجده في جامع إشبيلية مع زخرفته، والبستان الذي في صحنه، وقد تأمّلت ما وجدت فيه من الارتياح والأنس دون منظر يوجب ذلك، فعلمت أنه سرّ مودع من

<<  <  ج: ص:  >  >>