فأبادهم وأفناهم، ومن حينئذ تلاشى العاضد، وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة فقط، هذا وصلاح الدين يوالي الطلب منه في كل يوم ليضعفه، فأتى على المال والخيل والرقيق وغير ذلك حتى لم يبق عند العاضد غير فرس واحد، فطلب منه، وألجأه إلى إرساله، وأبطل ركوبه من ذلك الوقت.
وصار لا يخرج من القصر البتة، وتتبع صلاح الدين جند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم، فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، فلما كان في سنة ست وستين أبطل المكوس من ديار مصر، وهدم دار المعونة بمصر، وعمرها مدرسة للشافعية، وأنشأ مدرسة أخرى للمالكية، وعزل قضاة مصر الشيعة، وقلد القضاء صدر الدين بن عبد الملك بن درباس الشافعيّ، وجعل إليه الحكم في إقليم مصر كله، فعزل سائر القضاة، واستتاب قضاة شافعية، فتظاهر الناس من تلك السنة بمذهب مالك والشافعيّ رضي الله عنهما، واختفى مذهب الشيعة إلى أن نسي من مصر، وأخذ في غزو الفرنج، فخرج إلى الرملة، وعاد في ربيع الأوّل، ثم سار إلى أيلة، ونازل قلعتها، حتى أخذها من الفرنج في ربيع الآخر، ثم سار إلى الإسكندرية، ولمّ شعث سورها، وعاد وسير توران شاه «١» ، فأوقع بأهل الصعيد، وأخذ منهم ما لا يمكن وصفه كثرة، وعاد فكثر القول من صلاح الدين، وأصحابه في ذم العاضد، وتحدّثوا بخلعه، وإقامة الدعوة العباسية بالقاهرة ومصر، ثم قبض على سائر من بقي من أمراء الدولة، وأنزل أصحابه في دورهم في ليلة واحدة، فأصبح في البلد من العويل والبكاء، ما يذهل، وتحكم أصحابه في البلد بأيديهم، وأخرج إقطاعات سائر المصريين لأصحابه، وقبض على بلاد العاضد، ومنع عنه سائر موادّه، وقبض على القصور، وسلمها إلى الطواشي بهاء الدين «٢» قراقوش الأسديّ، وجعله زمامها، فضيق على أهل القصر، وصار العاضد معتقلا تحت يده، وأبطل من الأذان: حيّ على خير العمل، وأزال شعار الدولة، وخرج بالعزم على قطع خطبة العاضد، فمرض ومات، وعمره إحدى وعشرون سنة إلّا عشرة أيام منها في الخلافة إحدى عشرة سنة وستة أشهر وسبعة أيام، وذلك في ليلة يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة بعد قطع اسمه من الخطبة، والدعاء للمستنجد العباسيّ بثلاثة أيام، وكان كريما لين الجانب مرّت به مخاوف وشدائد، وهو آخر الخلفاء الفاطميين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهديّ إلى أن مات العاضد مائتي سنة واثنتين وسبعين سنة وأياما بالقاهرة، منها مائتان وثماني سنين، فسبحان الباقي.