إذا قدم عليهم جوهر أن يترجلوا مشاة في خدمته، فلما قدم برقة افتدى صاحبها من ترجله ومشيه في ركابه بخمسين ألف دينار ذهبا، فأبى جوهر إلّا أن يمشي في ركابه، وردّ المال فمشى، ولمّا رحل من القيروان إلى مصر في يوم السبت رابع عشر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين وثلثمائة أنشد محمد «١» بن هانىء، في ذلك:
رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع ... وقد راعني يوم من الحشر أروع
غداة كأن الأفق سدّ بمثله ... فعاد غروب الشمس من حيث تطلع
فلم أدر إذ ودّعت كيف أودع ... ولم أدر إذا شيّعت كيف أشيع
إلا أن هذا حشد من لم يذق له ... غرار الكرى جفن ولا بات يهجع
إذا حلّ في أرض بناها مدائنا ... وإن سار عن أرض غدت «٢» وهي بلقع
تحلّ بيوت المال حيث محله ... وجمّ العطايا والرواق المرفع
وكبّرت الفرسان لله إذ بدا ... وظل السلاح المنتضى يتقعقع
وعب عباب الموكب الفخم حوله ... ورق كما رق الصباح الملمع
رحلت إلى الفسطاط أوّل رحلة ... بأيمن فأل بالذي أنت تجمع
فإن يك في مصر ظماء لمورد ... فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع
ويمّمهم من لا يغار بنعمة ... فيسلبهم لكن يزيد فيوسع
ولما دخل إلى مصر واختط القاهرة، وكتب بالبشارة إلى المعز قال ابن هانىء:
تقول بنو العباس قد فتحت مصر ... فقل لبني العباس قد قضي الأمر
وقد جاوز الإسكندرية جوهر ... تصاحبه «٣» البشرى ويقدمه النصر
ولم يزل معظما مطاوعا، وله حكم ما فتح من بلاد الشام، حتى ورد المعز من المغرب إلى القاهرة، وكان جعفر بن فلاح يرى نفسه أجلّ من جوهر، فلما قدم معه إلى مصر سيره جوهر إلى بلاد الشام في العساكر، فأخذ الرملة، وغلب الحسن بن عبد الله بن طفج، وسار فملك طبرية ودمشق.
فلما صارت الشام له شمخت نفسه عن مكاتبة جوهر، فأنفذ كتبه من دمشق إلى المعز، وهو بالمغرب سرّا من جوهر يذكر فيها طاعته، ويقع في جوهر، ويصف ما فتح الله للمعز على يده، فغضب المعز لذلك، وردّ كتبه كما هي مختومة، وكتب إليه: قد أخطأت