بعسقلان بناه: أمير الجيوش بدر الجماليّ، وكمله ابنه الأفضل وكان حمل الرأس إلى القاهرة من عسقلان، ووصوله إليها في يوم الأحد ثامن جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكان الذي وصل بالرأس من عسقلان: الأمير سيف المملكة تميم واليها كان، والقاضي المؤتمن بن مسكين مشارفها، وحصل في القصر يوم الثلاثاء العاشر من جمادى الآخرة المذكور.
ويذكر أنّ هذا الرأس الشريف لما أخرج من المشهد بعسقلان وجد دمه لم يجف، وله ريح كريح المسك، فقدم به الأستاذ مكنون في عشاري «١» من عشاريات الخدمة، وأنزل به إلى الكافوري، ثم حمل في السرداب إلى قصر الزمرّذ، ثم دفن عند قبة الديلم بباب دهليز الخدمة، فكان كل من يدخل الخدمة يقبل الأرض أمام القبر، وكانوا ينحرون في يوم عاشوراء عند القبر الإبل والبقر والغنم، ويكثرون النوح والبكاء، ويسبون من قتل الحسين، ولم يزالوا على ذلك حتى زالت دولتهم.
وقال ابن عبد الظاهر: مشهد الإمام الحسين صلوات الله عليه، قد ذكرنا أن طلائع بن رزيك المنعوت بالصالح، كان قد قصد نقل الرأس الشريف من عسقلان لما خاف عليها من الفرنج، وبنى جامعه خارج باب زويلة ليدفنه به، ويفوز بهذا الفخار، فغلبه أهل القصر على ذلك، وقالوا: لا يكون ذلك إلّا عندنا، فعمدوا إلى هذا المكان، وبنوه له، ونقلوا الرخام إليه، وذلك في خلافة الفائز على يد طلائع في سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
وسمعت من يحكي حكاية يستدل بها على بعض شرف هذا الرأس الكريم المبارك، وهي أن السلطان الملك الناصر رحمه الله، لما أخذ هذا القصر وشى إليه بخادم له قدر في الدولة المصرية، وكان زمام القصر، وقيل له: إنه يعرف الأموال التي بالقصر والدفائن، فأخذ وسئل، فلم يجب بشيء، وتجاهل، فأمر صلاح الدين نوّابه بتعذيبه، فأخذه متولي العقوبة، وجعل على رأسه خنافس وشدّ عليها قرمزية، وقيل: إن هذه أشدّ العقوبات، وإنّ الإنسان لا يطيق الصبر عليها ساعة إلّا تنقب دماغه وتقتله ففعل ذلك به مرارا، وهو لا يتأوّه، وتوجد الخنافس ميتة، فعجب من ذلك، وأحضره، وقال له: هذا سرّ فيك، ولا بدّ أن تعرّفني به؟ فقال: والله ما سبب هذا إلا أني لما وصلت رأس الإمام الحسين حماتها، قال: وأيّ سرّ أعظم من هذا وراجع في شأنه فعفا عنه.
ولما ملك السلطان الملك الناصر جعل به حلقة تدريس وفقهاء، وفوّضها للفقيه البهاء الدمشقيّ، وكان يجلس للتدريس عند المحراب الذي الضريح خلفه، فلما وزر معين الدين