معذرة إلى الله، وإليكم إني لم آتكم، حتى أتتني كتبكم ورسلكم، أن أقدم علينا، فليس لنا إمام، لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى، وقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين، انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه فسكتوا، وقال للمؤذن: أقم، فأقام وقال الحسين للحرّ: أتريد أن تصلي أنت بأصحابك؟ قال: بل صلّ أنت، ونصلي بصلاتك، فصلى بهم، ودخل فاجتمع إليه أصحابه وانصرف الحرّ إلى مكانه، ثم صلى بهم العصر، واستقبلهم فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس إنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم السائرين فيكم بالجور والعدوان، فإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وكان رأيكم غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم، فقال الحرّ: إنا والله ما ندري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر، فأخرج خرجين مملوءين صحفا، فنشرها بين أيديهم، فقال الحرّ: إنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد، فقال الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك، ثم أمر أصحابه لينصرفوا فركبوا، فمنعهم الحرّ من ذلك، فقال له الحسين: ثكلتك أمّك ما تريد، فقال له: والله لو كان غيرك من العرب يقولها، ما تركت ذكر أمّه بالثكل كائنا من كان، والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلّا بأحسن ما نقدر عليه، فقال له الحسين: ما تريد؟ قال: أريد أن أنطلق بك إلى ابن زيادة، وترادّ الكلام، فقال له الحرّ:
إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أدخلك الكوفة، فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة، ولا تزول إلى المدينة، حتى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد، أو إلى ابن زياد، فلعل الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك، فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، والحرّ يسايره.
فلما كان يوم الجمعة الثالث من المحرّم سنة إحدى وستين، قدم عمرو بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف، وبعث إلى الحسين رسولا يسأله ما الذي جاء به، فقال: كتب إليّ أهل مصر كم هذا أن أقدم عليهم، فإذا كرهوني، فأنا أنصرف عنهم، فكتب عمرو إلى ابن زياد يعرّفه ذلك، فكتب إليه أن يعرض على الحسين بيعة يزيد، فإن فعل رأينا فيه رأينا، وإلّا نمنعه، ومن معه الماء، فأرسل عمرو بن سعد خمسمائة فارس، فنزلوا على الشريعة، وحالوا بين الحسين، وبين الماء، وذلك قبل قتله بثلاثة أيام، ونادى مناد:
يا حسين ألا تنظر الماء لا ترى منه قطرة حتى تموت عطشا، ثم التقى الحسين بعمرو بن سعد مرارا، فكتب عمرو بن سعد إلى عبيد الله بن زياد: أما بعد، فإنّ الله قد أطفأ الثائرة، وجمع الكلمة، وقد أعطاني الحسين أن يرجع إلى المكان الذي أتى منه، أو أن تسيره إلى أيّ ثغر من الثغور شاء، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين، فيضع يده في يده، وفي هذا الكم رضى، وللأمّة صلاح.