والحدّ الرابع هو: أن آخر بعد أرض مصر عن خط الاستواء في جهة الشمال طرف بحر الروم، وعليه من أرض مصر بلدان كثيرة كالإسكندرية ورشيد ودمياط وتنيس والفرما.
وبعد دمياط عن خط الاستواء في الشمال أحد وثلاثون جزءا وثلث، وهذا البعد هو آخر الإقليم الثالث، وأوّل الإقليم الرابع. فالشمس لا تبعد عنهم كل البعد، ولا تقرب منهم كل القرب فالغالب عليهم الاعتدال مع ميل يسير إلى الحرارة فإن الموضع المعتدل على الصحة من البلدان العامة وهو أوّل وسط الإقليم الرابع، وأيضا فمجاورة دمياط للبحر وإحاطته بها تجعلها معتدلة بين الحرّ والبرد خارجة عن الاعتدال إلى الرطوبة، فيكون الغالب عليها المزاج الرطب الذي ليس بحارّ ولا بارد، ولذلك صارت ألوانهم سمرا وأخلاقهم سهلة وشعورهم سبطة، وإذا كان أوّل مصر من جهة الجنوب الغالب عليه الاحتراق وآخرها من جهة الشمال الغالب عليها الاعتدال مع ميل يسير نحو الحرارة فما بين هذين الموضعين من أرض مصر الغالب عليه الحرارة، وتكون قوّة حرارته بقدر بعده من أسوان، وقربه من بحر الروم.
ومن أجل هذا قال أبقراط وجالينوس: إن المزاج الغالب على أرض مصر الحرارة قال: وجبل لوقا في مشرق هذه الأرض يعوق عنها ريح الصبا، فإنه لم يوجد بفسطاط مصر صبا خالصة، لكن متى هبت الصبا عندهم، هبت نكبا بين المشرق والشمال، أو المشرق والجنوب، وهذه الرياح يابسة مانعة من العفن. وقد عدمت أهل مصر هذه الفضيلة ومن أجل ذلك صارت المواضع التي تهب فيها ريح الصبا من أرض مصر أحسن حالا من غيرها كالإسكندرية وتنيس، ويعوّق «١» أيضا هذا الجبل إشراق الشمس على أرض مصر إذا كانت على الأفق فيكون زمان لبث الشعاع على هذه الأرض أقل من الطبيعيّ. ومثل هذه الحال سبب لركود الهواء وغلظه.
وأرض مصر أرض كثيرة الحيوان والنبات جدّا لا تكاد تجد فيها موضعا خلوا من الحيوان والنبات. وهي أرض متخلخلة فإنك تراها عند انصراف النيل بمنزلة الحمأة، فإذا حلّت الحرارة ما فيها من الرطوبة تشققت شقوقا عظاما، والمواضع الكثيرة الحيوان والنبات أرض كثيرة العفونة، وقد اجتمع على أرض مصر حرارة مزاجها وكثرة ما فيها من الحيوان والنبات، فأوجب ذلك احتراقها وسواد طينها، فصارت أرضا سوداء. وما قرب منها من الجبل سبخ إما بورقيّ أو مالح. ويظهر من أرض مصر بالعشيات بخار أسود أو أغبر وخاصة في أيام الصيف. وأرض مصر ذات أجزاء كثيرة ويختص كل جزء منها بشيء دون غيره، وعلة ذلك ضيق عرضها واشتمال طولها على عرض الإقليم الثاني والثالث، فإن الصعيد فيه من النخل والسنط وآجام القصب والبردي ومواضع إحراق الفحم وغير ذلك شيء كثير.