قطعت الأليفين عن ألفة ... بها سمر الحيّ بين الرجال
كذا كان آباؤك الأكرمون ... سالت فقل لي جواب السؤال
فقال الخليفة الآمر: لما بلغته الأبيات، جواب سؤاله قطع لسانه على فضوله، وطلب في أحياء العرب، فلم يوجد، فقالت العرب: ما أخسر صفقة طراد، باع أبيات الحيّ بثلاثة أبيات، وكان بالإسكندرية: مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسن بن حديد له مروءة عظيمة، ويحتذى أفعال البرامكة، وللشعراء فيه أمداح كثيرة مدحه ظافر الحدّاد، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهما. وكان له بستان يتفرّج فيه به جرن كبير من رخام، وهو قطعة واحدة وينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من كبره، وكان يجد في نفسه برؤيته زيادة على أهل التنعم، والمباهاة في عصره، فوشى به للبدوية محبوبة الآمر، فسألت الخليفة الآمر في حمل الجرن إليها، فأرسل إلى ابن حديد بإحضار الجرن، فلم يجد بدّا من حمله من البستان، فلما صار إلى الآمر أمر بعمله في الهودج، فقلق ابن حديد، وصارت في قلبه حرارة من أخذ الجرن، فأخذ يخدم البدوية، ومن يلوذ بها بأنواع الخدم العظيمة الخارجة عن الحدّ في الكثرة حتى قالت البدوية: هذا الرجل أخجلنا بكثرة تحفه، ولم يكلفنا قط أمرا نقدر عليه عند الخليفة مولانا، فلما قيل له هذا القول عنها قال: ما لي حاجة بعد الدعاء لله بحفظ مكانها، وطول حياتها في عزّ ردّد الفسقية التي قلعت من داري التي بنيتها في أيامها من نعمتهم تردّ إلى مكانها، فتعجبت من ذلك، وردّتها عليه، فقيل له: حصلت في حدّ أن خيّرتك البدوية في جميع المطالب، فنزلت همتك إلى قطعة حجر، فقال: أنا أعرف بنفسي، ما كان لها أمل سوى أن لا تغلّب في أخذ ذلك الحجر من مكانه، وقد بلغها الله أملها، وكان هذا المكين قضاء الإسكندرية، ونظرها في أيام الآمر.
وبلغ من علوّ همته، وعظم مروءته أنّ سلطان الملوك حيدرة أخا الوزير المأمون بن البطائحيّ: لما قلده الآمر ولاية ثغر الإسكندرية في سنة سبع عشرة وخمسمائة، وأضاف إليه الأعمال البحرية، ووصل إلى الثغر، ووصف له الطبيب دهن شمع بحضور القاضي المذكور، فأمر في الحال بعض غلمانه بالمضيّ إلى داره لإحضار دهن شمع. فما كان أكثر من مسافة الطريق إلا أن أحضر حقا مختوما فكّ عنه، فوجد فيه منديل لطيف مذهب على مداف بلور فيه: ثلاثة بيوت، كل بيت عليه قبة ذهب مشبكة مرصعة بياقوت وجوهر، بيت دهن بمسك، وبيت دهن بكافور، وبيت دهن بعنبر طيب، ولم يكن فيه شيء مصنوع لوقته، فعندما أحضره الرسول، تعجب المؤتمن والحاضرون من علوّ همته، فعندما شاهد القاضي ذلك بالغ في شكر أنعامه، وحلف بالحرام إن عاد إلى ملكه، فكان جواب المؤتمن قد قبلته منك لا لحاجة إليه، ولا لنظر في قيمته بل لإظهار هذه الهمة، وإذاعتها، وذكر أن قيمة هذا المداف، وما عليه: خمسمائة دينار، فانظر رحمك الله، إلى من يكون دهن الشمع عنده في