وكان قد فرّ وقت الهزيمة على فرس بمفرده، فأخذه بعض العرب أسيرا، فقدم به على مفرّج «١» بن دعقل بن الجراح الطائيّ وعمامته في عنقه، فبعث به إلى العزيز، فأمر به فشهر في العسكر، وطيف به على جمل، فأخذ الناس يلطمونه ويهزّون لحيته حتى رأى في نفسه العبر، ثم سار العزيز بهفتكين والأسرى إلى القاهرة، فاصطنعه ومن معه، وأحسن إليه غاية الإحسان، وأنزله في دار وواصله بالعطاء والخلع حتّى قال: لقد احتشمت من ركوبي مع مولانا العزيز بالله وتطوّفي إليه بما غمرني من فضله وإحسانه. فلما بلغ ذلك العزيز قال لعمه حيدرة: يا عمّ؛ والله إني أحبّ أن أرى النعم عند الناس ظاهرة، وأرى عليهم الذهب والفضة والجوهر ولهم الخيل واللباس والضياع والعقار، وأن يكون ذلك كلّه من عندي.
وبلغ العزيز أنّ الناس من العامّة يقولون: ما هذا التركيّ؟ فأمر به فشهّر في أجمل حال، ولمّا رجع من تطوّفه وهب له مالا جزيلا، وخلع عليه وأمر سائر الأولياء بأن يدعوه إلى دورهم، فما منهم إلا من عمل له دعوة، وقدم إليه وقاد بين يديه الخيول، ثمّ إن العزيز قال له بعد ذلك: كيف رأيت دعوات أصحابنا؟ فقال: يا مولانا، حسنة في الغاية وما فيهم إلا من أنعم وأكرم. فصار يركب للصيد والتفرّج، وجمع إليه العزيز بالله أصحابه من الأتراك والديلم، واستحجبه واختصّ به، وما زال على ذلك إلى أن توفّي في سنة اثنين وسبعين وثلثمائة، فاتّهم العزيز وزيره يعقوب بن كلّس أنه سمّه لأنّ هفتكين كان يترفّع عليه، فاعتقله مدّة ثمّ أخرجه.
حارة الأتراك: هذه الحارة تجاه الجامع الأزهر، وتعرف اليوم بدرب الأتراك، وكان نافذا إلى حارة الديلم، والورّاقون القدماء تارة يفردونها من حارة الديلم، وتارة يضيفونها اليها ويجعلونها من حقوقها، فيقولون تارة: حارة الديلم والأتراك، وتارة يقولون: حارتي الديلم والأتراك، وقيل لها حارة الأتراك لأنّ هفتكين لما غلب ببغداد سار معه من جنسه أربعمائة من الأتراك، وتلاحق به عند ورود القرامطة عليه بدمشق عدّة من أصحابه، فلما جمع لحرب العزيز بالله كان أصحابه ما بين ترك وديلم، فلما قبض عليه العزيز ودخل به إلى القاهرة في الثاني والعشرين من شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وستّين وثلثمائة كما تقدّم نزل الديلم مع أصحابهم في موضع حارة الديلم، ونزل هفتكين بأتراكه في هذا المكان، فصار يعرف بحارة الأتراك. وكانت مختلطة بحارة الديلم لأنهما أهل دعوة واحدة، إلا أنّ كلّ جنس على حدة لتخالفهما في الجنسيّة ثم قيل بعد ذلك درب الأتراك.