يوضع في بين القصرين من هذا النوع وغيره، ولقد أدركنا في كل ليلة من بعد العصر يجلس الباعة بصنف لحمان الطيور التي تقلى صفا، من باب المدرسة الكاملية إلى باب المدرسة الناصرية، وذلك قبل بناء المدرسة الظاهرية المستجدّة، فيباع لحم الدجاج المطجن، ولحم الأوز المطجن، كلّ رطل بدرهم، وتارة بدرهم وربع، وتباع العصافير المقوّة كل عصفور بفلس، حسابا عن كل أربعة وعشرين بدرهم، والمشيخة تقول إنّا حينئذ في غلاء، لكثرة ما تصف من سعة الأرزاق ورخاء الأسعار في الزمن الذي أدركوه قبل الفناء الكبير، ومع ذلك فلقد وقع في سنة ست وثمانين شيء لا يكاد يصدّقه اليوم من لم يدرك ذلك الزمان، وهو أنّه: كان لنا من جيراننا بحارة برجوان، شخص يعاني الجندية، ويركب الخيل، فبلغني عن غلامه أنّه خرج في ليلة من ليالي رمضان، وكان رمضان إذ ذاك في فصل الصيف، ومعه رقيق له من غلمان الخيل، وأنهما سرقا من شارع بين القصرين، وما قرب منه، بضعا وعشرين بطيخة خضراء، وبضعا وثلاثين شقفة جبن، والشقفة أبدا من نصف رطل إلى رطل، فما منّا إلّا من تعجب من ذلك، وكيف تهيأ لاثنين فعل هذا، وحمل هذا القدر يحتاج إلى دابتين، إلى أن قدّر الله تعالى لي بعد ذلك أن اجتمعت بأحد الغلامين المذكورين، وسألته عن ذلك فاعترف لي به، قلت: صف لي كيف عملتما، فذكر أنهما كانا يقفان على حانوت الجبان، أو مقعد البطيخيّ، وكان إذ ذاك يعمل من البطيخ في بين القصرين مرصّات كثيرة جدّا، في كل مرصّ ما شاء الله من البطيخ، قال: فإذا وقفنا قلب أحدنا بطيخة وقلب الآخر أخرى، فلشدّة ازدحام الناس يتناول أحدنا بطيخته بخفة يد وصناعة ويقوم، فلا يفطن به. أو يقلب أحدنا ورفيقه قائم من ورائه، والبياع مشغول البال لكثرة ما عليه من المشترين، وما في ذلك الشارع من غزير الناس، فيحذفها من تحته وهو جالس القرفصا، فإذا أحسّ بها رفيقه تناولها ومرّ. وكذلك كان فعلهم مع الجبانين، وكانوا كثيرا، فانظر- أعزك الله- إلى بضاعة يسرق منها مثل هذا القدر ولا يفطن به من كثرة ما هنالك من البضائع ولعظم الخلق.
ولقد حدّثني غير واحد ممن قدم مع قاضي القضاة عماد الدين أحمد الكركيّ، أنّه لما قدموا من الكرك في سنة اثنين وتسعين وسبعمائة، كادوا يذهلون عند مشاهدة بين القصرين.
وقال لي ابنه محب الدين محمد: أوّل ما شاهدّت بين القصرين، حسبت أنّ زفة أو جنازة كبيرة تمرّ من هنالك، فلما لم ينقطع المارة، سألت ما بال الناس مجتمعين للمرور من ههنا؟
فقيل لي: هذا دأب البلد دائما، ولقد كنا نسمع أنّ من الناس من يقوم خلف الشاب أو المرأة عند التمشي بعد العشاء بين القصرين ويجامع حتى يقضي وطره وهما ماشيان، من غير أن يدركهما أحد لشدّة الزحام، واشتغال كل أحد بلهوه. وما برحت أجد من الازدحام مشقة، حتى أفادني بعض من أدركت أنّ من الرأي في المشي أن يأخذ الإنسان في مشيه نحو شماله، فإنه لا يجد من المشقة كما يجد غيره من الزحام، فاعتبرت ذلك آلاف مرّات في عدّة سنين، فما أخطأ معي، ولقد كنت أكثر من تأمّل المارة بين القصرين، فإذا هم صفان،