للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الدال على التكثير وهو (تبتيل) فجمع المعنيين: التدرج والتكثير. ولو نظرت إلى هذه الآية لرأيتها مصوغة صياغة فنية عالية، فالتبتل معناه الانقطاع إلى الله في العبادة، والعبادة تأتي في بالتدرج وحمل النفس، وتكلف مشاقها فجاء بالفعل الدال على التدرج أولا، ثم جاء بالمصدر الدال على الكثير ومعنى ذلك أبدا بالتدرج وانته بالكثرة، وهو توجيه تربوي سليم، ولو عكس فجاء بالفعل الدال على الكثرة اولا ثم جاء بعده بالمصدر الدال على التدرج لم يفد هذه الفائدة.

ولو قال: (تبتل تبتيلا) لم يزد على معنى التدرج، ولو قال (بتل نفسك إليه تبتيلا) ما زاد على معنى الكثرة، ولكن اراد المعنيين فجاء بالفعل من صيغة، والمصدر من صيغة أخرى فجمعهما، فهو بدل أن يقول: (وتبتل إليه تبتلا وبتل إليه تبتيلا) أخذ فعلا لمعنى آخر فجمعهما ثم قدم التدرج على الكثرة.

وهناك أمر فني آخر جميل، وهو أنه جاء بما يدل على التدرج بصيغة الفعل، لأن الفعل يدل على التجدد والحدوث، وجاء بما يدل على الكثرة بالمصدر، لأن الاسم فيه مبالغة وثبوت. وفمن المعلوم أن الفعل يدل على التجدد والحدوث والاسم يدل على الثبوت نحو يتعلم، ومتعلم ويحفظ وحافظ فجاء لمعنى التدرج بصيغة الفعل الدالة على التجدد والحدوث، وجاء لمعنى الكثرة بصيغة المصدر الدالة على الثبوت والمبالغة، لأنها الحالة الثابتة لمرادة في العبادة، أما حالة التدرج فهي حالة موقوتة يراد منها الانتقال لا الاستمرار، والاستقرار لكل معنى بما يناسبه.

جاء في (التفسير القيم) في قوله تعالى: {وتبتل إليه تبتيلا}:

"ومصدر تبتل إليه تبتل كالتعلم والتفهم ولكن جاء على التفعيل مصدر فعل لسر لطيف. فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدرج والتكلف، والتعمل والتكثير والمبالغة، فأتى بالفعل الدال على احدهما وبالمصدر الدال على الآخر فكأنه قيل: بتل نفسك إلى تبتيلا وتبتل إليه تبتلا ففهم المعنيان من الفعل ومصدره، وهذا كثير في القرآن وهو من حسن الاختصار والإيجاز" (١).


(١) التفسير القيم ٥٠١ - ٥٠٢

<<  <  ج: ص:  >  >>