وهو نظير ما سبق فهي ليست زائدة للتوكيد، ولكن لمعنى الابتداء، ولو قال قائل أنها هنا أدخلت توكيدا لأن المقام مقام توكيد، لكان في قوله مندوحة، ولكن فالأولى ابقاؤها على معناه الذي أوضحناه.
ومثله قوله تعالى:{ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق}[البقرة: ١٠٩].
وقوله:{يا أيها الذين أمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين}[آل عمران: ١٠٠].
ففي الآية الأولى ذكر (من) وفي آية آل عمران لم يذكرها وذلك أنه ذكر في الآية الأولى أن كثيرا من الكفار يتمنون لو أنهم ردوا المسلمين من بعد الإيمان كافرين، أي بلا مهلة، حسدا من عند أنفسهم، فهم يتمنون الاسراع في تفكيرهم، وأن ينقلوهم من حالة الإيمان إلى حالة الكفر فورا، في حين أن آية آل عمران تحذير للمسلمين من إطاعة الكافرين، لأنهم ينفثون فيهم أوهامهم وضلالهم، شيئا فشيئا، حتى يردوهم بعد الإيمان كافرين وليس معناه أنهم ينقلونهم فورا من الإيمان إلى الكفر، ولكن معناه أنهم يضلونهم شيئا فشيئا حتى يخرجوا الإيمان من قلوبهم.
فالأولى مقام تمن، والثانية مقام التحذير من الإضلال.
ومن هذا الباب قوله تعالى:{وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون}[البقرة: ٥٥ - ٥٦]، أي لم يتركهم مدة طويلة ميتين، ثم قال:{وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما أتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون. ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين}[البقرة: ٦٣ - ٦٤].