وأما التعليل بـ (من) ففيه معنى الابتداء، فعندما تقول (قتله من إملاق) يكون المعنى أن القتل صدر من الإملاق، وحصل منه فهو مبدأ الفعل، ونحوه:(بكي من الألم) و (عض أصبعه من الندم) بمعنى حصل البكاء، من الألم وصدر منه، وحصل العض من الندم وصدر منه، فالندم أسبق من العض، ومنه حصل العض، والألم أسبق من البكاء ومنه صدر البكاء، فالعلة بـ (من) أسبق وجودًا من الحدث.
تبين مما سبق أن العلة المسبوقة بالباء و (من) موجودة قبل الحدث، أما العلة المسبوقة باللام فقد تكون واقعة قبل الحدث، وقد تكون مرادا تحصيلها.
وتبين لنا أن التعليل بالباء و (من) مختلفان، فالتعليل بالباء يفيد العوض والمقابلة، وأما التعليل بـ (من) فيفيد الابتداء، فقوله تعالى:{ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} لا يصح فيه أن نقول بإملاق، وقولنا ((عض أصبعه من الندم) لا يصح أن نقول فيه بالندم. وقولنا (قعد من الجبن) لا يصح أن نقول فيه قعد بالجبن، لأنه ليس مقابلا للقعود، وإنما حصل منه القعود ونشأ منه.
قال تعالى:{وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءو بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله}[البقرة: ٦١]، فما حصل هو مقابل كفرهم.
وقد تحسن معاقبة الباء و (من) في تعبير واحد، وكل على تقدير معنى، فمثلا قوله تعالى:{مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا}[نوح: ٢٥]، المعنى فيه أن الماء دخل عليهم من حطيئاتهم، أي جاءهم من هذا المكان، كأن الخطيئات ثغرة دخل منها الماء، فهي للابتداء، ولو قلت:(بخطيئاتهم أغرقوا) لكان المعنى أن الغرق مقابل للخطيئات، كأنهم أدوا ثمن الخطيئات وهو الغرق، وقال تعالى:{فأخذتهم الصاعقة بظلمهم}[النساء: ١٥٣]، أي هذا مقابل ذاك، فالصاعقة ثمن الظلم، ولو قال (من ظلمهم) لكان المعنى أن الصاعقة جاءتهم من موطن الظلم، فالباء تفيد المقابلة والعوض، و (من) تفيد الابتداء.