ثم ألا ترى أنك قد تكون في مقام تريد فيه أن تبين طول الدنيا وتقلبها، فتقول:(إن هذه الدنيا طويلة تغر الحليم وتغير النفوس، وكثيرا ما تتغير الطباع بتبدل الدهر وطول الزمان وتغير الحدثان) وتقول: (إن الصبر قد ينفد في هذا العمر الطويل، والنفس لا تحتمل مثل هذه المشقة، والمرارة طوال أيام العمر).
وقد تكون في مقام تريد فيه النهي عن الانصراف إلى الدنيا، فتقصرها في عين الرائي فتقول:(إنها سريعة الفناء والزوال، وكثيرا ما شاهدنا أناسا ذوي سطوة وجاه، زالوا في أسرع من لحظة العين، فاللبيب اللبيب من شمر للآخرة، وسعى لها سعيها ولا يغتر بهذه الدنيا الخداعة).
فإذا كان المقام مقام تطويل، جئت بـ (ثم)، وإذا كان المقام مقام تقصير، جئت بالفاء فتقول مثلا:(ألا ترى إلى فلان كيف نشأ من أبوين فقيرين، ثم كبر ثم ساد، ثم انتزع الملك من بني فلان، وحكم ما شاء الله له ان يحكم، وبقي أولئك يتربصون به ويستعدون ويجمعون عليه الأنصار، ثم انقضوا عليه فأهلكوه).
فإذا أردت أن تقصر ذلك، قلت:(ألا ترى إلى فلان كيف ساد وملك، فإذا هو بعد مرة كأن لم يكن فأصبح أثرا بعد عين وغيبا بعد شهود).
ولكل مقام مقال.
وقد تفيد الفاء الدلالة على السبب، وذلك كقوله تعالى:{فوكزه موسى فقضى عليه}[القصص: ١٥]، ونحو قولك (أغضب خالد أباه فأهانه) و (أكل فشبع)، و (تعب فنام) فيؤتي بالفاء لإرادة السببية، ومن ذلك قوله تعالى:{وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم}[البقرة: ٢٢]، فالفاء أفادت السبب، فإذا أردنا السبب لم يصح الإتيان بـ (ثم)، لأنها لا تفيده، بل تأتي بالفاء وإن كان ثمة تراخ، فإن فاء السبب لا تفيد التعقيب دوما، بل هي قد تفيده، كما في قوله تعالى:{فوكزه موسى فقضى عليه} وربما لا تفيده نحو: {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم}.