وَإِنَّمَا قُدِّمَ الرَّحْمَنُ عَلَى الرَّحِيمِ لِأَنَّ الرَّحْمَنَ خَاصٌّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُقَالُ لِغَيْرِ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ بَنِي حَنِيفَةَ فِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ: رَحْمَانُ الْيَمَامَةِ، وَقَوْلُ شَاعِرِهِمْ
وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْت رَحْمَانًا
فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ، وَإِلَّا فَهُوَ كَاَللَّهِ خَاصٌّ بِاَللَّهِ لُغَةً وَشَرْعًا. قَالَ وَمِنْ ثَمَّ أُخِّرَ عَنْ اللَّهِ بِخِلَافِ الرَّحِيمِ فَلَيْسَ خَاصًّا بِهِ تَعَالَى بَلْ عَامٌّ بِهِ وَبِغَيْرِهِ تَعَالَى لِمَنْ قَامَ بِهِ مَعْنَاهُ.
وَاعْتُرِضَ بِمَا خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ الرَّحِيمُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْتَحِلَهُ، وَحَمَلَهُ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ عَلَى الْمُعَرَّفِ بِأَلْ دُونَ الْمُنَكَّرِ وَالْمُضَافِ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الرَّحِيمِ كَمَا أَشَرْنَا لِزِيَادَةِ بِنَائِهِ عَلَى الرَّحِيمِ وَزِيَادَةُ الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى غَالِبًا كَمَا فِي قَطَعَ وَقَطَّعَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْعَادَةُ تَقْدِيمُ غَيْرِ الْأَبْلَغِ لِيَرْتَقِيَ مِنْهُ إلَى الْأَبْلَغِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ عَالِمٌ نِحْرِيرٌ وَجَوَادٌ فَيَّاضٌ، فَالْجَوَابُ قَدْ قِيلَ إنَّ الرَّحِيمَ أَبْلَغُ، وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ خُصَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ، فَقِيلَ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَرَحِيمُ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ عَكْسُهُ، وَقِيلَ الرَّحْمَنُ أَمْدَحُ وَالرَّحِيمُ أَلْطَفُ. وَقِيلَ إنَّمَا خُولِفَتْ الْعَادَةُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ أَنْ يُرْدَفَ الرَّحْمَنُ الَّذِي تَنَاوَلَ جَلَائِلَ النِّعَمِ وَأُصُولِهَا بِالرَّحِيمِ لِيَكُونَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِتَنَاوُلِهِ مَا دَقَّ مِنْهَا وَلَطُفَ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي: الْحَقُّ قَوْلُ الْأَعْلَمِ وَابْنِ مَالِكٍ أَنَّ الرَّحْمَنَ لَيْسَ بِصِفَةٍ بَلْ عَلَمٍ. قَالَ وَبِهَذَا لَا يُتَّجَهُ السُّؤَالُ وَيَنْبَنِي عَلَى عَلَمِيَّتِهِ أَنَّهُ فِي الْبَسْمَلَةِ وَنَحْوِهَا بَدَلٌ لَا نَعْتٌ، وَأَنَّ الرَّحِيمَ بَعْدَهُ نَعْتٌ لَهُ لَا نَعْتٌ لِاسْمِ اللَّهِ، إذْ لَا يُقَدَّمُ الْبَدَلُ عَلَى النَّعْتِ. قَالَ وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّهُ غَيْرُ صِفَةٍ مَجِيئُهُ كَثِيرًا غَيْرَ تَابِعٍ نَحْوُ {الرَّحْمَنُ} [الرحمن: ١] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: ٢] {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: ١١٠] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: ٦٠] انْتَهَى.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مَجِيئَهُ كَثِيرًا غَيْرَ تَابِعٍ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ إذَا عُلِمَ جَازَ حَذْفُهُ وَإِبْقَاءُ صِفَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} [فاطر: ٢٨] أَيْ نَوْعٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَاخْتِلَافِ السَّمَوَاتِ وَالْجِبَالِ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّهُ صِفَةٌ كَالرَّحِيمِ بِحَسَبِ الْأَصْلِ فَمُشْتَقَّانِ مِنْ رَحُمَ بِجَعْلِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute