وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ: مَا رَأَتْ عَيْنِي مُصِيبَةً نَزَلَتْ بِالْخَلْقِ أَعْظَمَ مِنْ سَبِّهِمْ لِلزَّمَانِ وَعَيْبِهِمْ لِلدَّهْرِ. وَقَدْ كَانَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» وَمَعْنَاهُ أَنْتُمْ تَسُبُّونَ مَنْ فَرَّقَ شَمْلَكُمْ وَأَمَاتَ أَهَالِيِكُمْ وَتَنْسُبُونَهُ إلَى الدَّهْرِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ. فَتَعَجَّبْت كَيْفَ أُعْلِمُ أَهْلَ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْحَالِ وَهُمْ عَلَى مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ مَا يَتَغَيَّرُونَ، حَتَّى رُبَّمَا اجْتَمَعَ الْفُطَنَاءُ الْأُدَبَاءُ الظِّرَافُ عَلَى زَعْمِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُغُلٌ إلَّا ذَمَّ الدَّهْرِ، وَرُبَّمَا جَعَلُوا اللَّهَ الدُّنْيَا وَيَقُولُونَ فَعَلَتْ وَصَنَعَتْ، حَتَّى رَأَيْت لِأَبِي الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيِّ:
وَلَمَّا تَعَامَى الدَّهْرُ وَهُوَ أَبُو الْوَرَى ... عَنْ الرُّشْدِ فِي إيجَابِهِ وَمَقَاصِدِهِ
تَعَامَيْت حَتَّى قِيلَ إنِّي أَخُو عَمَى ... وَلَا غَرْوَ أَنْ يَحْذُوَ الْفَتَى حَذْوَ وَالِدِهِ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رَأَيْت خَلْقًا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ فُقَهَاءُ وَفُهَمَاءُ وَلَا يَتَحَاشَوْنَ مِنْ هَذَا، وَهَؤُلَاءِ إنْ أَرَادُوا بِالدَّهْرِ مُرُورَ الزَّمَانِ فَذَاكَ لَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا مُرَادَ، وَلَا يَعْرِفُ رُشْدًا مِنْ ضَلَالٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلَامَ فَإِنَّهُ زَمَانٌ مُدَبَّرٌ لَا مُدَبِّرٌ، فَيُتَصَرَّفُ فِيهِ وَلَا يَتَصَرَّفُ، وَمَا يُظَنُّ بِعَاقِلٍ أَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمَذْمُومَ الْمُعْرِضَ عَنْ الرُّشْدِ الْمُسِيءَ الْحُكْمَ هُوَ الزَّمَانُ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا عَنْ رِبْقَةِ الْإِسْلَامِ وَنَسَبُوا هَذِهِ الْقَبَائِحَ إلَى الصَّانِعِ، فَاعْتَقَدُوا فِيهِ قُصُورَ الْحِكْمَةِ وَفِعْلَ مَا لَا يَصْلُحُ. كَمَا اعْتَقَدَهُ إبْلِيسُ فِي تَفْضِيلِ آدَمَ.
وَهَؤُلَاءِ لَا يَنْفَعُهُمْ مَعَ هَذَا اعْتِقَادُ إسْلَامٍ وَلَا فِعْلُ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ. بَلْ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْكُفَّارِ. ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: تَأَمَّلْت عَلَى قَوْمٍ يَدْعُونَ الْعُقُولَ يَعْتَرِضُونَ عَلَى حِكْمَةِ الْخَالِقِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَيَبْقَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ أَعْطَاهُمْ الْكَمَالَ، وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالنَّقْصِ. هَذَا الْكُفْرُ الْمَحْضُ الَّذِي يَزِيدُ فِي الْقُبْحِ عَلَى الْجَحْدِ. فَأَوَّلُ الْقَوْمِ إبْلِيسُ فَإِنَّهُ رَأَى بِعَقْلِهِ أَنَّ جَوْهَرَ النَّارِ أَشْرَفُ مِنْ جَوْهَرِ الطِّينِ فَرَدَّ حِكْمَةَ الْخَالِقِ. وَمَرَّ عَلَى هَذَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَرِضِينَ مِثْلُ ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ وَالْمَعَرِّيُّ. قَالَ وَهَذَا الْمَعَرِّيُّ اللَّعِينُ يَقُولُ كَيْفَ يُعَابُ ابْنُ الْحَجَّاجِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute