أَنْفُسِنَا.
وَنَقُولَ هَذَا فِعْلُ عَالِمٍ حَكِيمٍ، وَلَكِنْ مَا تَبَيَّنَ لَنَا مَعْنَاهُ. وَلَيْسَ هَذَا بِعَجَبٍ. فَإِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَفِيَ عَلَيْهِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي نَقْضِ السَّفِينَةِ الصَّحِيحَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ الْجَمِيلِ، فَلَمَّا بَيَّنَ لَهُ الْخَضِرُ وَجْهَ الْحِكْمَةِ أَذْعَنَ.
فَلْنَكُنْ مَعَ الْخَالِقِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ. أَلَسْنَا نَرَى الْمَائِدَةَ الْمُسْتَحْسَنَةَ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ فُنُونِ الطَّعَامِ النَّظِيفِ الظَّرِيفِ يُقَطَّعُ وَيُمْضَغُ وَلَا يُنْكَرُ الْإِفْسَادُ لَهُ، لِعِلْمِنَا بِالْمَصْلَحَةِ الْبَاطِنَةِ فِيهِ، فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ لَهُ بَاطِنٌ لَا نَعْلَمُهُ. وَمِنْ أَجْهَلِ الْجُهَّالِ الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إذَا طَلَبَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى سِرِّ مَوْلَاهُ، فَإِنَّ فَرْضَهُ التَّسْلِيمُ لَا الِاعْتِرَاضُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الِابْتِلَاءِ بِمَا تُنْكِرُهُ الطِّبَاعُ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ إذْعَانَ الْعَقْلِ وَتَسْلِيمَهُ لَكَفَى.
قَالَ: وَلَقَدْ تَأَمَّلْت حَالَةً عَجِيبَةً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالْمَوْتِ هِيَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ فِي غَيْبٍ لَا يُدْرِكُهُ الْإِحْسَاسُ، فَلَوْ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُضْ هَذِهِ الْبِنْيَةَ لَتَخَايَلَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ صُنْعٌ لَا يُصَانَعُ فَإِذَا وَقَعَ الْمَوْتُ عَرَفَتْ النَّفْسُ نَفْسَهَا الَّتِي كَانَتْ لَا تَعْرِفُهَا لِكَوْنِهَا فِي الْجَسَدِ، وَتُدْرِكُ عَجَائِبَ الْأُمُورِ بَعْدَ رَحِيلِهَا، فَإِذَا رُدَّتْ إلَى الْبَدَنِ عَرَفَتْ ضَرُورَةَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنْ أَعَادَهَا، وَتَذَكَّرَتْ حَالَهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْأَذْكَارَ تُعَادُ كَمَا تُعَادُ الْأَبْدَانُ، فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور: ٢٦] . وَمَتَى رَأَتْ مَا قَدْ وُعِدَتْ بِهِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، أَيْقَنَتْ يَقِينًا لَا شَكَّ مَعَهُ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا بِإِعَادَةِ مَيِّتٍ سِوَاهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ هَذَا الْأَمْرِ فِيهَا، فَيَبْنِي بِنِيَّةِ تَقَبُّلِ الْبَقَاءِ، وَيَسْكُنُ جَنَّةً لَا يَنْقَضِي دَوَامُهَا.
فَيَصْلُحُ بِذَلِكَ الْيَقِينُ أَنْ تُجَاوِرَ الْحَقَّ؛ لِأَنَّهَا آمَنَتْ بِمَا وَعَدَ، وَصَبَرَتْ بِمَا ابْتَلَى، وَسَلَّمَتْ لِأَقْدَارِهِ فَلَمْ تَعْتَرِضْ، وَرَأَتْ فِي غَيْرِهَا الْعِبَرَ ثُمَّ فِي نَفْسِهَا، فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: ٢٨] {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: ٢٩] {وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: ٣٠] . فَأَمَّا الشَّاكُّ وَالْكَافِرُ فَيَحِقُّ لَهُمَا الدُّخُولُ إلَى النَّارِ وَاللُّبْثُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمَا رَأَيَا الْأَدِلَّةَ وَلَمْ يَسْتَفِيدَا، وَنَازَعَا الْحَكِيمَ وَاعْتَرَضَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَفِعْ بِالدَّلِيلِ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْمَوْتِ وَالْإِعَادَةِ.
وَدَلِيلُ بَقَاءِ الْخُبْثِ فِي الْقُلُوبِ قَوْله تَعَالَى {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: ٢٨] .
فَنَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَقْلًا مُسْلِمًا يَقِفُ عَلَى حَدِّهِ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى خَالِقِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute