يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْمَنْظُومَةَ لَا تَنْسَاقُ مَبَانِيهَا، وَبَلَاغَةُ مَعَانِيهَا، إذَا نَظَرَ إلَيْهَا الْإِنْسَانُ دُهِشَ وَحَارَ، وَإِنَّمَا يُدْرِكُ ذَلِكَ فَيَحِيرُ لَهَا (قَلْبُ اللَّبِيبِ) الْعَاقِلِ (وَ) يَحِيرُ لَهَا أَيْضًا قَلْبُ رَجُلٍ (عَارِفٍ) بِالنَّظْمِ وَلِلْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَمَعَانِي الْكَلَامِ، وَمَفْهُومِ النِّظَامِ، وَالْمَعْرِفَةُ تُرَادِفُ الْعِلْمَ إلَّا أَنَّهَا مَسْبُوقَةٌ بِجَهْلٍ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ وَيَخُصُّهَا بَعْضُ النَّاسِ بِالْبَسَائِطِ أَوْ الْجُزْئِيَّاتِ، وَلِهَذَا لَا تُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ بِخِلَافِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ وَلَا يُقَالُ لَهُ عَارِفٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمَعْرِفَةُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ الْعِلْمُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مَعَ الصِّدْقِ لِلَّهِ فِي مُعَامَلَاتِهِ. وَفِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ التَّحْرِيرِ: يُطْلَقُ الْعِلْمُ وَيُرَادُ بِهِ مَعْنَى الْمَعْرِفَةِ وَيُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ، وَهِيَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا عِلْمٌ مُسْتَحْدَثٌ أَوْ انْكِشَافٌ بَعْدَ لَبْسٍ أَخَصُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ غَيْرَ الْمُسْتَحْدَثِ وَهُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَشْمَلُ الْمُسْتَحْدَثَ وَهُوَ عِلْمُ الْعِبَادِ. وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا يَقِينٌ وَظَنٌّ أَعَمُّ مِنْ الْعِلْمِ لِاخْتِصَاصِهِ حَقِيقَةً بِالْيَقِينِ. قَالَ وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَارِفٌ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. حَكَاهُ الْقَاضِي إجْمَاعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
هُمَا يَعْنِي اللَّبِيبَ وَالْعَارِفَ (كَرِيمَانِ) لَا لَئِيمَانِ فَإِنَّ الْكَرِيمَ وَاسِعُ الْخُلُقِ صَفُوحٌ عَنْ الزَّلَلِ، غَيْرُ مُتَتَبِّعٍ لِلْخَلَلِ، وَاللَّئِيمُ بِضِدِّ ذَلِكَ كُلِّهِ (إنْ جَالَا) مِنْ جَالَ فِي الْحَرْبِ جَوْلَةً وَفِي الطَّوَافِ. وَالْمُرَادُ هُنَا إنْ أَمْعَنَا (بِفِكْرٍ) بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ هُوَ إعْمَالُ النَّظَرِ فِي الشَّيْءِ كَالْفِكْرَةِ وَالْفِكْرَى، وَالْجَمْعُ أَفْكَارٌ وَتَقَدَّمَ (مُنَضِّدِ) مُتَتَابِعٍ يُقَالُ نَضَّدَ مَتَاعَهُ يُنَضِّدُهُ جَعَلَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ كَنَضَدَهُ فَهُوَ مَنْضُودٌ وَنَضِيدٌ وَمُنَضَّدٌ، أَوْ أَرَادَ بِفِكْرٍ مُقِيمٍ مُحْكَمٍ، يُقَالُ انْتَضَدَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ، وَهَذَا أَنْسَبُ، أَوْ بِفِكْرٍ غَزِيرٍ مُتَرَاكِمٍ، فَإِنَّ النَّضَدَ مِنْ السَّحَابِ مَا تَرَاكَمَ وَتَرَاكَبَ.
وَعَلَى كُلٍّ فَالْمُرَادُ أَنَّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا اللَّبِيبُ وَالْعَارِفُ يَحِيرَانِ وَيَدْهَشَانِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةُ مِنْ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ. وَالْمَسَائِلِ الْأَنِيقَةِ، وَالْأَحْكَامِ الْوَثِيقَةِ، وَالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَالْآثَارِ الصَّرِيحَةِ، وَالْكَلِمَاتِ الْفَصِيحَةِ، مَعَ وَجَازَةِ لَفْظِهَا، وَانْسِجَامِ نَظْمِهَا، وَعُذُوبَةِ كَلِمَاتِهَا، وَسُهُولَةِ أَبْيَاتِهَا. وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَنْظُومَةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَلَنْ تُعْدَمَ مِنْ هَذَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ إمْسَاكًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْكُرَمَاءِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute