مَطْلَب فِي اسْتِئْذَانِ مُرِيدِ الدُّخُولِ عَلَى غَيْرِهِ
وَسُنَّةٌ اسْتِئْذَانُهُ لِدُخُولِهِ ... عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَقْرَبِينَ وَبُعَّدِ
(وَسَنَةٌ) بِالتَّنْوِينِ وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةً: الطَّرِيقَةُ وَالْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ، حَمِيدَةً كَانَتْ أَوْ ذَمِيمَةً، وَالْجَمْعُ سُنَنٌ، مِثْلُ غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ مَا أُضِيفَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ (اسْتِئْذَانُهُ) أَيْ اسْتِئْذَانُ مُرِيدِ الدُّخُولِ، وَهُوَ بِالنَّقْلِ لِلْوَزْنِ أَيْ طَلَبُ الْإِذْنِ (لِدُخُولِهِ عَلَى غَيْرِهِ) فَإِنْ أَذِنَ لَهُ دَخَلَ، وَإِلَّا رَجَعَ، وَسَوَاءٌ كَانَ أَرْبَابُ الْمَنْزِلِ الْمَطْلُوبِ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ (مِنْ أَقْرَبِينَ) لِلْمُسْتَأْذِنِ يَعْنِي أَقَارِبًا لَهُ، وَلَوْ مَحَارِمَ أَ (وَ) كَانُوا مِنْ (بُعَّدِ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مُشَدَّدَةً جَمْعُ بَعِيدٍ ضِدُّ الْقَرِيبِ، وَالْمُرَادُ بَعِيدٌ مِنْ الْقَرَابَةِ يَعْنِي أَجْنَبِيًّا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: ٢٧] .
قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ بَيْتَ غَيْرِك إلَّا بِالِاسْتِئْذَانِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، يَعْنِي يَجِبُ الِاسْتِئْذَانُ إذَا أَرَادَ الدُّخُولَ إلَى بَيْتِ غَيْرِهِ.
وَمَعْنَى تَسْتَأْنِسُوا: تَسْتَأْذِنُوا، وَقَطَعَ بِوُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ ابْنُ مُوسَى وَالسَّامِرِيُّ وَابْنُ تَمِيمٍ عَلَى الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ.
قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَلَا وَجْهَ لِحِكَايَةِ الْخِلَافِ فَيَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجَةٍ وَأَمَةٍ.
وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى وَالِدَتِهِ فَلْيَسْتَأْذِنْ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - نَحْوُ ذَلِكَ.
وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ نَعَمْ» . فَأَمَرَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهَا وَهُوَ مُرْسَلٌ جَيِّدٌ. قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ.
وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا، وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: ٥٨] إلَى {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: ٥٨] قَالَ إنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ، وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلَا حِجَالٌ، فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوْ الْوَلَدُ أَوْ يَتِيمَةُ الرَّجُلِ