فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّاظِمَ أَرَادَ اقْبَلْ كَرَاهَةَ الْقِيَامِ لِغَيْرِ مَنْ ذُكِرَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ اُبْسُطْ كَرَاهَةَ ذَلِكَ وَوَطِّئْهَا وَانْشُرْهَا وَهَيِّئْهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَيُكْرَهُ الْقِيَامُ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي وَالْفُجُورِ.
وَاَلَّذِي يُقَامُ لَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكْرَهَ ذَلِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَا يَطْلُبَهُ؛ لِمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا فَقُمْنَا إلَيْهِ، فَقَالَ لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» وَلِذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: النَّهْيُ قَدْ وَقَعَ عَلَى السُّرُورِ بِتِلْكَ الْحَالِ، فَإِذَا لَمْ يُسَرَّ بِالْقِيَامِ لَهُ وَقَامُوا إلَيْهِ فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُمَا: فَرَّقُوا بَيْنَ الْقِيَامِ لِأَهْلِ الدِّينِ وَغَيْرِهِمْ، فَاسْتَحَبُّوهُ لِطَائِفَةٍ، وَكَرِهُوهُ لِأُخْرَى. وَالتَّفْرِيقُ فِي مِثْلِ هَذَا بِالصِّفَاتِ فِيهِ نَظَرٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ وَغَيْرُهُمْ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ تَحْذِيرٌ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْعُجْبِ وَالْخُيَلَاءِ. مَعَ أَنَّ ابْنَ قُتَيْبَةَ قَالَ: إنَّمَا مَعْنَاهُ مَا تَفْعَلُهُ الْأَعَاجِمُ وَالْأُمَرَاءُ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَنْ يَجْلِسَ، وَالنَّاسُ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ تَكَبُّرًا وَعُجْبًا. وَلِذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي مَنْ يَمْشِي النَّاسُ خَلْفَهُ إكْرَامًا: إنَّهَا ذِلَّةٌ لِلتَّابِعِ وَفِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ.
وَرَدَّ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حَاشِيَةِ السُّنَنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ سِيَاقَ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَرِهَ الْقِيَامَ لَهُ لَمَّا خَرَجَ تَعْظِيمًا وَلِأَنَّ هَذَا لَا يُقَالُ لَهُ الْقِيَامُ لِلرَّجُلِ وَإِنَّمَا هُوَ الْقِيَامُ عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ أَوْ عِنْدَ الرَّجُلِ.
قَالَ: وَالْقِيَامُ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ، قِيَامٌ عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ، وَهُوَ فِعْلُ الْجَبَابِرَةِ، وَقِيَامٌ إلَيْهِ عِنْدَ قُدُومِهِ وَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقِيَامٌ لَهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، وَهُوَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ انْتَهَى.
وَقَدْ وَرَدَ فِي خُصُوصِ الْقِيَامِ عَلَى رَأْسِ الْكَبِيرِ الْجَالِسِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُمْ عَظَّمُوا مُلُوكَهُمْ بِأَنْ قَامُوا وَهُمْ قُعُودٌ.
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ إنَّ الْقِيَامُ يَقَعُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: