فَفِي هَذَا مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ وُجُوهٌ مُتَعَدِّدَةٌ: أَحَدُهَا: وَصْفُ ضَيْفِهِ بِأَنَّهُمْ مُكْرَمُونَ، وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ إكْرَامُ إبْرَاهِيمَ لَهُمْ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ الْمُكْرَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الذاريات: ٢٥] فَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِئْذَانَهُمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ بِإِكْرَامِ الضِّيفَانِ وَاعْتَادَ قِرَاهُمْ فَبَقِيَ مَنْزِلُ ضَيْفِهِ مَطْرُوقًا لِمَنْ وَرَدَهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْذَانٍ، بَلْ اسْتِئْذَانُ الدَّاخِلِ دُخُولُهُ. وَهَذَا غَايَةُ مَا يَكُونُ مِنْ الْكَرَمِ.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ لَهُمْ (سَلَامٌ) بِالرَّفْعِ وَهُمْ سَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالنَّصْبِ. وَالسَّلَامُ بِالرَّفْعِ أَكْمَلُ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثُّبُوتِ وَالدَّوَامِ، وَالْمَنْصُوبُ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ، فَقَدْ حَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةٍ أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِمْ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ سَلَامًا يَدُلُّ عَلَى سَلَّمْنَا سَلَامًا. وَقَوْلَهُ سَلَامٌ أَيْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ حَذَفَ الْمُبْتَدَأَ مِنْ قَوْلِهِ {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: ٢٥] فَإِنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَهُمْ وَلَمْ يَعْرِفْهُمْ احْتَشَمَ مِنْ مُوَاجَهَتِهِمْ بِلَفْظٍ يُنَفِّرَ الضَّيْفَ لَوْ قَالَ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ.
الْخَامِسُ: بِنَاءُ اسْمِ الْمَفْعُولِ لِلْمَجْهُولِ وَلَمْ يَقُلْ إنِّي أُنْكِرُكُمْ: وَهُوَ أَحْسَنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَأَبْعَدُ مِنْ التَّنْفِيرِ، وَالْمُوَاجَهَةِ بِالْخُشُونَةِ.
(السَّادِسُ) : أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَاغَ إلَى أَهْلِهِ لِيَجِيئَهُمْ بِنُزُلِهِمْ. وَالرَّوَغَانُ هُوَ الذَّهَابُ فِي اخْتِفَاءٍ بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَشْعُرُ بِهِ الضَّيْفُ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَسْتَحْيِ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ إلَّا وَقَدْ جَاءَهُ بِالطَّعَامِ.
(السَّابِعُ) : أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِالضِّيَافَةِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُعَدًّا عِنْدَهُمْ مُهَيَّأً لِلضِّيَافَةِ، وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَذْهَبَ إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ جِيرَانِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيَشْتَرِيَهُ، أَوْ يَسْتَقْرِضَهُ.
(الثَّامِنُ) : قَوْلُهُ {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: ٢٦] دَلَّ عَلَى خِدْمَتِهِ لِلضَّيْفِ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَقُلْ فَأَمَرَ لَهُمْ، بَلْ هُوَ الَّذِي ذَهَبَ وَجَاءَ بِهِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَبْعَثْهُ مَعَ خَادِمِهِ. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي إكْرَامِ الضَّيْفِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute