للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: قَوْلُهُ " تَرِبَتْ " كَلِمَةٌ مَعْنَاهَا الْحَثُّ وَالتَّحْرِيضُ، وَقِيلَ هِيَ هُنَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْفَقْرِ، وَقِيلَ بِكَثْرَةِ الْمَالِ، وَاللَّفْظُ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا قَابِلٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا. قَالَ وَالْآخَرُ هُنَا أَظْهَرُ وَمَعْنَاهُ اظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ وَلَا تَلْتَفِتْ إلَى الْمَالِ أَكْثَرَ اللَّهُ مَالَك. وَرُوِيَ الْأَوَّلُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَأَى الْفَقْرَ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْغِنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى.

وَقَالَ فِي الْمَطَالِعِ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَرِبَتْ يَدَاك» قَالَ مَالِكٌ: خَسِرَتْ يَدَاك. وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُهُ: اسْتَغْنَتْ، وَأَنْكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَيْ لَا يُقَالُ فِي الْغِنَى إلَّا أَتْرَبَ.

وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: إنَّمَا هُوَ تَرِبْت أَيْ اسْتَغْنَيْت، وَهِيَ لُغَةٌ لِلْقِبْطِ جَرَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ، وَهِيَ تَرُدُّهَا الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ وَمَعْرُوفُ كَلَامِ الْعَرَبِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ ضَعُفَ عَقْلُك أَتَجْهَلُ هَذَا؟ وَقِيلَ افْتَقَرَتْ يَدَاك مِنْ الْعِلْمِ. وَقِيلَ هُوَ حَضٌّ عَلَى تَعَلُّمِ مِثْلٍ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ لِلَّهِ دَرُّك. وَقِيلَ امْتَلَأَتْ تُرَابًا. وَقِيلَ تَرِبَتْ أَصَابَهَا التُّرَابُ، وَمِنْهُ تَرِبَ جَبِينُك وَأَصْلُهُ الْقَتِيلُ يُقْتَلُ فَيَقَعُ عَلَى جَبِينِهِ فَيَتَتَرَّبُ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ.

قَالَ: وَالْأَصَحُّ فِيهِ وَفِي مِثْلِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّهُ دُعَاءٌ يُدْعَمُ بِهِ الْكَلَامُ وَيُوصَلَ تَهْوِيلًا لِلْخَبَرِ، مِثْلَ اُنْجُ لَا أَبًا لَكَ، وَثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، وَهَوَتْ أُمُّهُ، وَوَيْلُ أُمِّهِ، وَحَلْقَى عَقْرَى، وَأَلَّ وَعَلَّ، لَا يُرَادُ وُقُوعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ أَصْلَهُ الدُّعَاءُ، لَكِنَّهُمْ قَدْ أَخْرَجُوهُ عَنْ أَصْلِهِ إلَى التَّأْكِيدِ زِيَادَةً، وَإِلَى التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِحْسَانِ تَارَةً، وَإِلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّعْظِيمِ أُخْرَى. انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَعَلَى الْعَاقِلِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَنْ يَرْغَبَ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ الْمُعْتَمَدُ وَالْعَمُودُ، وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَقْصُودُ.

وَيُحْكَى أَنَّ نُوحَ بْنَ مَرْيَمَ قَاضِيَ مَرْوَ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ، فَشَاوَرَ جَارًا لَهُ مَجُوسِيًّا، فَقَالَ: النَّاسُ يَسْتَفْتُونَك وَأَنْتَ تَسْتَفْتِينِي، قَالَ لَا بُدَّ أَنْ تُشِيرَ عَلَيَّ. فَقَالَ إنَّ رَئِيسَنَا كِسْرَى كَانَ يَخْتَارُ الْمَالَ، وَرَئِيسَ النَّصَارَى قَيْصَرَ كَانَ يَخْتَارُ الْجَمَالَ، وَجَاهِلِيَّةَ الْعَرَبِ كَانَتْ تَخْتَارُ الْحَسَبَ وَالنَّسَبَ، وَرَئِيسَكُمْ مُحَمَّدًا كَانَ يَخْتَارُ الدِّينَ، فَانْظُرْ أَنْتَ بِأَيِّهِمْ تَقْتَدِي.

<<  <  ج: ص:  >  >>