للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبلغني عن الفهمي (١) احتج لذلك بقول اللَّه عز وجل: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}، فهذا يوجب أن يكون القاذف فاسقًا حين قذف إلى أن يأتي بالشهداء، وأصحابُه لا يجعلون القاذف فاسقًا مردودَ الشهادة إلا بعد أن يُحَد، فأدخل شيئًا في غير بابه، لأن هذه الآيات نزلت في عائشة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تنزيهًا لها لموضعها من الدين والطهارة، وعاتبَ القومَ في أمرها وألزمهم لمعرفتهم بها وجلالتها أن يقولوا ذلك، ولم يعن بذلك سائر الناس، والذي رمى عائشة لم يقله عن تيقن، وإنما قاله لتخلفها عن الجيش ولم يقبَل عذرها، وقالوا بأفواههم ما ليس لهم به علم كما وصف اللَّه عز وجل، وكان هذا عظيمًا في امرأة من أفناء الناس، فكيف في امرأة شبهها اللَّه تبارك وتعالى في الطهارة برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال عز من قائل: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: ٢٦]، الطيبات: عائشة، والطيبون: الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ}: عائشة، وصفوان بن مُعَطِّل، وسائر الناس لا يُشَبَّهُون بها، لأن القاذف قد يكون صادقًا، وإنما يُحَدُّ بالظاهر، وأنه كان يَسَعُه السكوت إذا عجز عن البينة، بل له أن يسكت وإن كانت البينة يقدر عليها، لما أمر اللَّه به من الستر على عباده.

وإنه لعظيم عندي أن ينطلق لساني بالاحتجاج بقصة عائشة -رضي اللَّه عنها- المطهرة، ولكن دعت الضرورة لتشبيه هذا الإنسان القاذف بأمر عائشة، التي عاتب اللَّه تبارك وتعالى الخلق في أمرها ووعظ غاية الوعظ، لأن أصله تخَرُّصٌ من غير أصل، وكل قاذف ليس كذلك، لأن منهم من يجوز أن يكون قد رأى، أو منهم من يقدر على الشهداء، فليس يقال له: إنه من الفُسّاق حتى يعجِز، وما لم يُحد فقد يجوز أن يأتي تصديقُه، وإنما يُحد ليُكَذَّب عن المقذوف، ويحكم على


(١) في الأصل: الفُمي، والصواب ما أثبته، وهو الإمام الليث بن سعد، أبو الحارث الفهمي، فقيه مصر (ت ١٧٥ هـ)، انظر ترجمته في السير للذهبي (٨/ ١٣٦ - ١٦٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>