علي الخروج معه والإنحدار في حراقته، وكان بسر من رأى، فركبنا في الحراقة، فلما انتهينا إلى فم نهر القاطوع نصب ستارة، وأمر بالغناء، فاندفعت عوادة فغنت:
كل يوم قطيعة وعتاب ... ينقضي دهرنا ونحن غضاب
ليت شعري أنا خصصت بهذا ... دون ذا الخلق أم كذا الأحباب
وسكتت فأمر الطنبور فغنت:
وارحمنا للعاشقين ... ما أن أرى لهم مغنيا
كم يهجرون ويصرمون ... ويقطعون ويضربونا
قال فقالت لها العوادة: فيصنعون ماذا. قالت: هكذا يصنعون، وضربت بيدها إلى الستارة فهتكتها، وبرزت كأنها فلقة قمر، فألقت نفسها في الماء، وعلى رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال، وبيده مذبة، فأتى الموضع ونظر إليها وهي تصير بين الماء فأنشد:
أنت التي عرفتني ... بعد القضاء لو تعلمينا
وألقى نفسه في الماء في إثرها، فأدار الملاح الحراقة، فإذا بهما معتنقين، ثم غاصاً فلم يريا، فاستعظم محمد ذلك، وهاله أمره، ثم قال: يا عمرو لتحدثني ما يسليني عن فعل هذين، وإلا ألحقتك بهما، قال: فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك، وقد قعد للمظالم وعرضت عليه القصص، فمرت به قصة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أن يخرج إلى جارية حتى تغني ثلاثة أصوات فعل. فاغتاظ يزيد من ذلك، وأمر أن يخرج إليه، ويأتيه برأسه، أتبع الرسول رسولاً آخر، يأمره أن يدخل إليه الرجل، فأدخله، فلما وقف بين يديه قال له: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك والإتكال على عفوك. فأمره بالجلوس حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج، ثم أمر بالجارية فأخرجت ومعها عودها، فقال له الفتى: غني:
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
فغنته، فقال له يزيد: قل، قال: غني:
تألق البرق نجدياً فقلت له ... يا أيها البرق إني عنك مشغول
فغنته، قال له يزيد: قل، قال: تأمر لي برطل شراب؟ فأمر له به، فما استتم شرابه حتى وثب وصعد على أعلى قبة ليزيد ورمى نفسه على دماغه فمات. فقال يزيد: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتراه الأحمق الجاهلي ظن أني أخرج إليه جاريتى،. وأردها إلى ملكي؟ يا غلمان، خذوا بيدها، واحملوها إلى أهله إن كان له أهل وإلا فبيعوها وتصدقوا بثمنها