فدخلت فسلمت عليه فرد علي رداً جميلاً وقال: من تكون أعزك الله تعالى؟ فانتسبت له فقال: رحم الله أسلافك وآباءك السمحاء، فلقد كانت أيامهم رياض الأزمنة، ولقد انجيز بهم خلق كثير، فسقياً لهم ورعياً. فدعوت له وقلت له: أسألك أن تنشدني شيئاً من الشعر فأنشدني:
لئن قدمت قبلي رجال، فطالما ... شئت على رسلي فكنت المقدما
ولكن هذا الدهر تأتي صروفه ... فتبرم منقوضاً وتنقض مبرما
ثم نهضت، فلما قاربت الدهليز قال: يا فتى، أرأيت مفلوجاً ينفعه الإهليلج؟ قلت لا، قال: إن الإهليلج الذي معك ينفعني، فابعث لي منه، فقلت: نعم، وخرجت متعجباً من وقوفه على خبري مع كتماني. وبعثت إليه مائة إهليلجة، وقال أبو الحسن البرمكي أنشدني الجاحظ:
وكان لنا أصدقاء مضوا ... تفانوا جميعاً فما خلدوا
سقاهم جميعاً كؤوس المنون ... فمات الصديق ومات العدو
قلت: كان المناسب لقوله: " فمات الصديق ومات العدو " أن يذكر الأعداء الأصدقاء في البيت الأول، فيقال لنا: أصدقاء مضوا مع أعداء، فيكون قوله في آخر البيت الأخير: فمات الصديق ومات العدو مطابقاً لأول الأول.
[ست وخمسين ومائتين]
كان صالح بن وصيف التركي قد ارتفعت منزلته، وقتل المعتز وظفر بأمه، فصادر حتى استصفى نعمتها، وأخذ منها نحو ثلاثة آلاف ألف دينار، ونفاها إلى مكة، ثم صادر خاصة المعتز وكتابه، وقتل بعضهم.
فلما دخلت السنة المذكور أقبل موسى بن بغا وعبأ جيشه، ودخلوا سامراء ملبسين مجمعين على قتل صالح بن وصيف، وهم يقولون: قتل المعتز وأخذ أموال أمه وأموال الكتاب. وصاحت العامة: يا فرعون، جاءك موسى. ثم هجم بمن معه على المهتدي وأركبوه فرساً، وانتهبوا القصر، ثم أدخلوا المهتدي دار ناجور " بالنون والجيم والراء على ما ضبطه في الأصل المنقول منه "، وهو يقول: يا موسى، ويحك ما تريد؟ فيقول: وتربة المتوكل لا ينالك سوء. ثم حلفوه لا يمالىء صالح ابن وصيف عليهم، وبايعوه فطلبوا صالحاً ليناً، ظروه على أفعاله فأخرج، وردوا المهتدي إلى داره، وبعد شهر قتل صالح.