للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حتى طلعت بضوء وجهك فانجلى ... ذاك الدجى وانجاب ذلك العثير

وافتن فيك الناظرون فإصبع ... يومي إليك بها وعين تنظر

يجدون رؤيتك التي فازوا بها ... من أنعم الله التي لا تكفر

ذكروا طلعتك التي قد هللوا ... لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً ... نور الهدى يبدو عليك ويظهر

ومشيت مشية خاشع متواضع ... لله لا تزهو ولا تتكبر

فلو أن مشتاقاً تكلف غير ما ... في وسعه لمشى إليك المنبر

أبديت من فصل الخطاب بحكمة ... تنبي عن الحق المبين وتخبر

ووقفت في برد النبي مذكراً ... بالله تنذر تارة وتبشر

وقوله: وانجاب ذلك العثير هو بكسر العين المهملة وسكون المثلثة وفتح المثناة من تحت والمراد به: الغبار. قال بعض الفضلاء: وهذا الشعر هو السحر الحلال على الحقيقة، والسهل الممتنع، فلله دره ما أسلس قياده، وأعذب ألفاظه، وأحسن سبكه، وألطف مقاصده. وليس فيه من الحشو شيء، بل جميعه تحت، وديوانه موجود، وشعره سائر، فلا حاجة إلى الإكثار منه ها هنا لكن تذكر من وقائعه ما يستطرف.

فمن ذلك أنه كان بحلب شخص يقال له أحمد بن طاهر الهاشمي، مات أبوه وخلف له مقدار مائة ألف دينار، فأنفقها على الشعراء والوزراء وفي سبيل الله، فقصده البحتري من العراق. فلما وصل إلى حلب قيل له: إنه قد قعد في بيته لديون ركبته، فاغتم البحتري لذلك غماً شديداً، وبعث المدحة إليه مع بعض مواليه. فلما وصلته ووقف عليها بكى، ودعا بغلام له وقال له: بع داري، فقال له: لا تبع دارك، وتبقى على رؤوس الناس، فقال له: لا بد من بيعها، فباعها بثلاث مائة دينار وأنفذها إلى البحتري وكتب إليه معها هذه الأبيات:

لو يكون الحياء حسب ... أنت لدينا به محل وأهل

لحثيت اللجين والدر والياً ... قوت حثواً وكأن ذلك بقل

والأديب الأريب يسمع بالعذر ... إذا قصن الصديق المقل

فلما وصلت الرقعة للبحتري رد الدنانير وكتب إليه:

بأبي أنت أنت للبر أهل ... والمساعي بعد سعيك قبل

والنوال القليل يكثر إن شاء ... مرجيك والكثير يقل

غير أني رددت برك إذ كان ... ربا منك والربا لا يحل

فإذا ما جزيت شعراً بشعر ... قضي الحق والدنانير فضل

<<  <  ج: ص:  >  >>