للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إذا قلت أبدى الهجر لي حلل البلا ... تقولين: لولا الهجر لم يطب الحب

وإن قلت هذا القلب أحرقه الهوى ... تقولي الهوى الذي تشرق القلب

فصفقت وصيحت، فبينا أنا كذلك، إذا أنا بصاحب الدار قد خرج فقال: ما هذا يا سيدي؟ فقلت: ما سمعت، فقال: أشهد أنها هبة مني لك، فقلت: وقد قبلتها وهي حرة لوجه الله تعالى. ثم دفعتها لبعض أصحابنا بالرباط، فولدت له ولداً نبيلاً، ونشأ أحسن نشوء، وحج على قدميه ثلاثين حجة على الوحدة.

وأخبار الجنيد كثيرة، ومناقبه شهيرة، وسيرته حميدة، وكراماته عديدة. قيل: توفي آخر ساعة من نهار الجمعة، وقيل غير ذلك، ودفن بالشونيزية عند خاله السري. وكان عند موته قد ختم القرآن، ثم ابتدأ بقراءته، فقرأ سبعين آية من البقرة ثم مات. وإنما قيل له الخزاز لأنه كان يعمل الخز، وإنما قيل له القواريري: لأن أباه كان قواريرياً.

قلت: وذكر بعض المشايخ أنه لما صنف عبد الله بن سعيد بن كلاب كتابه الذي رد فيه على جميع المذاهب قال: هل بقي أحد؟ قيل له: نعم بقي طائفة يقال لها الصوفية، قال: فهل لهم من إمام يرجعون إليه؟. قيل: نعم، الأستاذ أبو القاسم الجنيد. فأرسل إليه، فسأله عن حقيقة مذهبه، فرد عليه الجنيد الجواب، بأن مذهبنا إفراد القدم عن الحدث، وهجران الإخوان والأوطان، ونسيان ما يكون وما كان. فلما سمع ابن كلاب هذا الجواب تعجب من ذلك وقال: هذا شيء، أو قال: كلام لا يمكن فيه المناظرة. ثم حضر مجلس الجنيد وسأله عن التوحيد، فأجابه بعبارة مشتملة على معارف الأسرار والحكم فقال: أعد علي ما قلت، فأعاده لا بتلك العبارة، فقال: هذا شيء آخر. فأعده علي، فأعاده بعبارة أخرى فقال: ما يمكننا حفظ ما تقول، فأمله علينا، فقال: لو كنت أجريه كنت أمليه، فقال بفضله واعترف بعلو شأنه. قلت: وإلى قوله: لو كنت أجريه كنت أمليه، أشرت على لسان صاحب الحال الجاري على لسانه كلام بغير اختيار على طريق التغزل بسلمى، ويشبهها حيث أقول حاكياً لكلام شيخنا، قدس الله تعالى روحه. في حال غيبته بالحال الوارد عليه:

وما قلت قولاً، غير أني أعرتها ... لساني، فأومت للهوى يتكلم

فأسرارها منها علمت، وعندما ... شكرت جليسي شرها منه يعلم

أعني: يعلم الجليس السر الجاري على لسان المتكلم بواسطة الهوى المشار إليه بالتكلم من جهة المحبوب المكنى عنه سلمى تستر.

وروي عن بعض المشايخ الصوفية الجلة أنه قال: قال لي الكعبي من كبار أئمة المعتزلة رأيت لكم شيخاً ببغداد يقال له الجنيد، ما رأت عيني مثله، كانت الكتبة يحضرونه لألفاظه،

<<  <  ج: ص:  >  >>