للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قضت حكماء ذلك العصر بترجيحه على النرد، ويقال أن " صصه " لما وضعه وعرضه على الملك المذكور أعجبه، وفرح به كثيراً، وأمر أن يكون في بيت الديانات، ورآها أفضل ما عمل، لأنها آلة الحرب، وعز الدين والدنيا، وأساس لكل عدل، وأظهر الشكر والسرور على ما أنعم عليه في ملكه بها. وقال لصصه: اقترح علي ما تشتهي، فقال: اقترحت أن تضع حبة بر في البيت الأول، ولا تزال تضعفها في كل بيت حتى تنتهي إلى آخرها، فمهما بلغ تعطيني. فاستصغر الملك ذلك، وأنكر عليه كونه قابله بالبر واليسير التافه الحقير، وكان قد أضمر له شيئاً كثيراً فقال: ما أريد إلآ هذا، وأصر على ذلك، فأجابه إلى مطلوبه، وتقدم له به، فلما قيل لأرباب الديوان أحسبوه قالوا: ما عندنا حب يفي بهذا، ولا بما يقاربه. فلما قيل للملك ذلك استنكر هذه المقالة، وأحضر أرباب الديوان، وسألهم فقالوا: لو جمع كل حب من البر في الدنيا، ما بلغ هذا القدر، فتعجب من مقالهم، وطالبهم بإقامة البرهان على ذلك، فقعدوا وحسبوه، وظهر لي صدق قولهم، فقال الملك: لصصه: أنت في اقتراحك ما اقترحت أعجب حالاً من وضعك الشطرنج.

قال ابن خلكان: وطريق هذا التضعيف أن يضع الحاسب في البيت الأول حبة، وفي الثاني حبتين، وفي الثالث أربع حبات، وفي الرابع ثماني حبات، وهكذا إلى آخره، فكلما انتقل إلى بيت أضعف ما قبله، وأثبته فيه. قال: ولقد كان في نفسي شيء من هذه المبالغه حتى اجتمع لي بعض حساب الإسكندرية، وذكر لي طريقاً يتبين صحة ما ذكروه، وأحضر لي ورقة بصورة ذلك، وهو أنه ضاعف الأعداد إلى البيت السادس عشر، وأثبت فيه وثلاثين ألفاً وسبع مائة وثماني وستين حبة، وقال: يجعل هذه الجملة مقدار قدح، قال: فغيرناها، فكانت كذلك، والعهدة عليه في هذا النقل، ثم ضاعف القدح في أبي السابع عشر، وهكذا حتى بلغ بيته في البيت العشرين، ثم انتقل إلى الوبيات ومنها إلى الأرادب، ولم يزل يضاعفها حتى انتهت في الأربعين إلى مائة ألف أردب، وأربعة وسبعين ألف أردب وسبع مائة واثنتين وستين أردباً وثلاثين أردباً. وقال: يجعل هذه الجملة في شونة، فقال: يجعل هذه مدينة، فإن المدينة لا يكون فيها أكثر من هذه الشون، وأي مدينة يكون فيها هذه الجملة من الشون؟. ثم ضاعف المدن حتى انتهت إلى بيت الرابع والستين، وهو آخر أبياته، دفعه الشطرنج إلى ستة عشر ألف مدينة وثلاثمائة وأربع وثمانين مدينة، وقال: نعلم أن ليس في الدنيا مدن أكثر من هذا العدد، فإن دور كرة الأرض معلوم بطريق الهندسة، وهو ثمانية آلاف فرسخ، بحيث لو وضعنا طرف حبل على أي موضع كان من الأرض وأدرنا الحبل على كرة الأرض، حتى، انتهينا بطرف الآخبر إلى ذلك الموضع

<<  <  ج: ص:  >  >>