ومما جرى له في ذلك أنهم سألوه: ما البيطرة عند العرب. فقال: كذا وكذا، فتضاحكوا سراً، وتركوه شهراً، ثم أمروا شخصاً سأله عن اللفظة بعينها فقال: أليس سألت عن هذه المسألة مدة كذا وكذا، وأجبت عنها بكذا وكذا؟ فتعجبوا من فطنته واستحضاره للمسألة والوقت.
وكان لمعز الدولة غلام اسمه خواجا، وكان المطرز المذكور قد بلغ من إملاء " كتاب اليواقيت " إلى ذكر الخبر، فقال: اكتبوا ياقوتة، وخواجا، " الخواج في أصل لغة العرب الجوع " ثم فرع على هذا باباً وأملاه، فعد الناس ذلك كذباً عظيماً، ثم تتبعوه في كتب اللغة، فوجدوا عن ثعلب عن ابن الأعرابي: الخواج، الجوع.
وكان المطرز المذكور يؤدب ولد القاضي محمد بن يوسف، فأملا يوماً على الغلام مسائل في اللغة، وذكر غريبها، وختمها ببيتين من الشعر، وحضر ابن دريد وابن الأنباري، وابن مقسم عند القاضي المذكور، فعرض عليهم تلك المسائل، فما عرفوا شيئاً، وأنكروا الشعر، فقال لهم القاضي: ما تقولون فيها؟ فقال ابن الأنباري: أنا مشغول بتصنيف مشكل القرآن، ولست أقول شيئاً. وقال ابن مقسم مثل ذلك، واحتج باشتغاله بالقراءآت. وقال ابن دريد: هذه المسائل من موضوعات المطرز لا أصل لشيء منها في اللغة. ثم انصرفوا، فبلغ المطرز ذلك، فاجتمع بالقاضي، وسأله إحضار دواوين جماعة من قدماء الشعراء عينهم، ففتح القاضي خزائنه، وأخرج له تلك الدواوين، فلم يزل المطرز يعمد إلى كل مسألة، ويخرج لها شاهداً من بعض تلك الدواوين، ويعرضه على القاضي، حتى استوفى جميعها، ثم قال: هذان البيتان أنشدناهما ثعلب بحضرة القاضي، وكتبهما القاضي بخطه على ظهر الكتاب الفلاني، فأحضر القاضي الكتاب، فوجد البيتين على ظهره بخطه، كما ذكر بلفظه.
وقال رئيس الرؤساء: وقد رأيت أشياء كثيرة مما أنكر عليه، ونسب فيه إلى الكذب، فوجدتها مدونة في كتب أهل اللغة، وخاصة في غريب أبي عيد، وقال عبد الواحد بن علي بن برهان الأسدي، لم يتكلم في علم اللغة أحد من الأولين والآخرين أحسن من كلام أبي عمرو الزاهد يعني المطرز وله " كتاب غريب الحديث " صنفه على مسند الإمام أحمد بن حنبل، وكان ابن برهان المذكور يستحسنه جداً، وله شعر رائق.
وفيها توفي الوزير محمد بن علي البغدادي الكاتب، وكان من الصلحاء واليه المنتهى في المعروف. قيل: إنه أعتق في عمره ألف رقبة، وأنفق في حجة حجها مائة ألف دينار، وبلغ ارتفاع مداخله بمصر من أملاكه في العام أربع مائة ألف دينار.