للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقضى في ظله أرب، وبذلك مطلب، ويتوسع مراد ومذهب، حتى إذا عدت عن اجتماعنا عواراً من الأنام قصدت مستقره، وتحتي بغلة سفوا تنظر عن عيني بارويتشوف بمثل قادمتي نسر، كأنني كوكب وقاد، من تحته عمامة، يقتادها زمام الجنوب، ومن بين يدي عدة من الغلمان الورقة مماليك وأحرار، يتهافتون تهافت فريد الدر عن أسلاكه، ولم أذكر هذا تبجحاً ولا تكبراً بل لأن أبا الطيب شاهد جميعه ولم يرعه روعته، ولا استنطفه زبرجه، ولا زادته تلك الحالة الجميلة التي ملأت طرفه وقلبه إلا عجباً بنفسه وإعراضاً عني بوجهه، فألفيت هناك فتية تأخذ عنه شيئاً من شعره، فحين أوذن بحضوري، واستؤذن عليه لدخولي، نهض عن مجلسه مسرعاً، ووارى شخصه مستخفياً، فأعجلته نازلاً عن البغلة - وهو يراني - ودخلت، فأعظمت الجماعة قدري، وأجلستني في مجلسه، وإذا تحته أحلاق عناقد الحب عليها الحوادث فهي رسوم دائرة، وأسلاك متناثرة، فلم يكن إلا ريثما جلست، فنهضت، ووفيته حق السلام، غير مشاح له في القيام، لأنه إنما اعتمد نهوضه عن الموضع لئلا ينهض إلي، والغرض في لقائه غير ذلك، وحين لقيته تمثلت بقول الشاعر:

وفي الممشى إليك علي عار ... ولكن الهوى منع القرارا

فتمثل بقول الآخر:

يسقى رجال، ويسقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقواماً بأقوام

وليس رزق الفتى من فضل حليته ... لكن جدود وأرزاق بأقسام

كذلك الصيد بحرمة الرامي المجيد وقد ... يرمي فيحرزه من ليس بالرامي

وإذا به لابس سبعة أقبية، كل قباء منها لون، وكنا في وغرة القيظ وجمرة الصيف، وفي يوم تكاد ودائع الهامات تسيل فيه، فجلست مستوفزاً، وجلس محتقراً، وأعرض عني لاهياً، وأعرضت عنه ساهياً، أؤنب نفسي في قصده، وأستخف رأيها في تكفف ملاقاته بعز هيئته، ثانياً عطفه، لا يعيرني طرفه، وأقبل على تلك الرغفة التي بين يديه، وكل يومىء إليه، ويرجي بلحظه، ويشير إلى مكاني بيده، ويوقظه من سنته وجهله، ويأتي الازدراء نفاراً وعتواً واستكباراً، ثم أيان يثني جانبه إلي، ويقبل بعض الإقبال علي، فأقسمت بالوفاء والكرم فإنهما من محاسن القسم أنه لم يزد علي أن قال: ايش خبرك. فقلت: بخير، ولا ما جنيت على نفسي من قصدك، ووسمت به قدري من ميسم الذل بزيارتك، وتجشمت رأيي من السعي إلى مثلك، ممن لم تهذبه تجربة، ولا أدبته بصرة، ثم تحدرت عليه تحدر لسيل إلى قوارة الوادي، وقلت له: أبن لي مم تيهك وخيلاؤك وعجبك وكبرياؤك؟ وما الذي يوجب ما أنت عليه من الذهاب بنفسك. والرمي بهمتك إلى حيث يقصر عنه باعك، لا يطول اليك ذراعك؟ هل هاهنا نسب تنتسب إلى المحدثة، أو شرف علقت بأذياله، أو

<<  <  ج: ص:  >  >>