للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التعصب، فعاد إلى التدريس، وكان بالغاً في العلم نهاية، مستجمعاً أسبابه، فبنيت المدرسة الميمون النظامية، وأقعد للتدريس فيها، واستقامت أمور الطلبة، وبقي ذلك قريباً من ثلاثين سنة من غير مزاحم ولا مدافع، فسلم له المحراب والمنبر، والخطابة والتدريس، ومجلس التذكير يوم الجمعة والمناظرة، وهجرت له المجالس، فانغمز غيره من الفقهاء بعلمه وتسلطه. قلت: يعني اقتداره على العلوم والتصرف فيها وكسدت الأسواق في جنبه، ونفق سوق المحققين من خواصه وتلامذته، وظهرت تصانيفه، وحضر درسه الأكابر والجمع العظيم من الطلبة، وكان يقعد بين يديه كل يوم نحو ثلاثمائة رجل من الأئمة والطلبة، وتخرج به جماعة من الأئمة الفحول وأولاد الصدور، حتى بلغوا محل التدريس في زمانه، وانتظم بإقباله على العلم، ومواظبته على التدريس والمناظرة، والمباحثة أسباب ومحافل، ومجامع وإمعان في طلب العلم، وسوق نافقة لأهله، لم تعهد قبله. واتصل به ما يليق بنصبه من القبول عند السلطان والوزير والأركان، ووفور الحشمة عندهم، بحيث لا يذكر من غيره، وكان المخاطب والمشار إليه، والمقبول من قبله، والمهجور من هجره، المصدر في المجالس، من ينتهي إلى خدمته، والمنظور إليه، من يعترف في الأصول والفروع من طريقته، واتفق منه تصانيف، مثل النظامي والغياتي حصل بسببها موقع القبول، بما يليق بها من الشكر والرضاء، والخلع الفائقة والمراكب الثمينه، والهدايا والموسومات، كذلك إلى أن قلد زعامة الأصحاب، ورئاسة الطائفة، وفوض اليه أمور الأوقاف، وصارت حشمة وزراء العلماء والأئمة والقضاة، وقوله في الفتوى مرجع العظماء والأكابر والولاة، واتققت له نهضة في أول ما كان من أيامه إلى اصبهان، بسبب مخالفة بعض الأصحاب، فلقي بها من المجلس النظامي ما كان اللائق بمنصبه من الاستيشار والإعزاز والإكرام بأنواع المبار، وأجيب بما كان فوق مطلوبه، وعاد مكرماً إلى نيسابور، وصار أكثر عنايته مصروفاً إلى تصنيف الكتاب الكبير في المذاهب، المسمى بنهاية المطلب في دراية المذهب، حتى حرره، وأملاه، وأتى فيه من البحث والتقرير، والسبك والتنقير، والتدقيق والتحقيق، بما شفى العليل، وأوضح السبيل، ونبه على قدره ومحله في علم الشريعة، ودرس ذلك للخواص والتلامذة، وفرغ منه ومن إتمامه، فعقد مجلساً لتتمة الكتاب، حضره الأئمة والكبار، وختم الكتاب على رسم الإملاء والاستملاء، وتبجح الجماعة بذلك، ودعوا له، وأثنوا عليه، وكانوا من المعتدين بإتمام ذلك، شاكرين عليه، فما صنف في الإسلام قبله مثله، ولا اتفق لأحد ما اتفق له، ومن قاس طريقته وطريقة المتقدمين في الأصول والفروع، وأنصف، أقر بعلو منصبه ووفور تعبه ونصبه في الدين، وكثرة شهرته في استنباط الغوامض، وتحقيق المسائل، وترتيب الدلائل.

<<  <  ج: ص:  >  >>