ملوك الهند في بعض الليالي متنكراً ليسمع ما يقول الناس في بلاده، فرأى ثلاثة جلوساً، فدنا منهم، فإذا بهم يتمنى كل واحد منهم شيئاً. فقال أحدهم: أتمنى أن أكون ملكاً، وقال آخر: أتمنى زوجة الملك أتزوجها، وقال الثالث: أتمنى فرساً وسيفاً ولباساً للحرب، لأجاهد في سبيل الله، فلما أصبح الملك، استدعي بهم، فلما حضروا أعطى الذي تمنى الجهاد فرساً جواداً، وسيفاً ماضياً ولباساً حصيناً، وقال: هذا ما تمنيت. وأجلس الذي تمنى الملك في مكان، وفوق رأسه سيف مسلول معلق بشيء واه، فبقي خائفاً يلتفت إلى السي. فقال له: أراك تلتفت؟ فقال: أخاف من هذا السيف، فقال: ما تطلب بالملك؟ فإن الملك لا يزال خائفاً مثلك الآن، وأمر بطعام وإدام من جنس واحد، ملون بألوان مختلفة، فأحضر ذلك، وأمر الذي تمنى زوجته أن يأكل من تلك الألوان، ففعل، فقال له: كيف رأيت ألوانه؟ قال: مختلفة، قال: فكيف طعمه؟ قال: واحد، قال: فكذلك النساء، انتهى معنى الحكاية. قلت: ومثل هذا المقال إنما هو مدافعة وتساهل في التمثيل، وليس المثل كالمثل، فإن اللذات بالنساء تتفاوت بحسب تفاوت جمالهن، وتفاوت منصبهن وشرفهن، وذلك معروف لا يمكن جحده. ولهذا يقول الرسول - عليه السلام:" ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله ". فمدحه بذلك، وبين فضله بمخالفة هواه مع شدة ميل الطبع، وقوة الشهوة المتصفة بهذه الصفة. رجعنا إلى ذكر ابن تاشفين، وقال بعضهم: كان يوسف بن تاشفين مقدم جيش أبي بكر بن عمر الصنهاجي، وكان أبو بكر المذكور قد حاصر سجلماسة، وقاتل أهلها أشد القتال، حتى أخذها، ثم رتب عليها يوسف بن تاشفين، وكان من أمره ما كان، وأول ذلك أن البرير خرج عليهم من جنوب المغرب الملثمون يتقدمهم أبو بكر بن عمر الصنهاجي، وكان رجلاً ساذجاً خير الطباع مؤثراً لبلاده على بلاد المغرب، غير ميال إلى الرفاهية، وكانت ولاة المغرب
ضعفاء، فلم يقدروا يقاومون الملثمين، فأخذوا البلاد من أيديهم من باب تلمسان إلى ساحل البحر المحيط. فلما حصلت البلاد لأبي بكر المذكور، سمع أن عجوزاً في بلاده ذهبت لها ناقة في غارة، فبكت، وقالت: ضيعنا أبو بكر بن عمر بدخوله إلى بلاد المغرب، فحمله ذلك على أن استخلف على بلاد المغرب يوسف بن تاشفين المذكور من أصحابه، ورجع إلى بلاده، وكان يوسف رجلاً شجاعاً، مقداماً عادلاً، فاختط بالمغرب مدينة مراكش - كما تقدم - وكان موضعها مكمناً للصوص، ثم تملك الأندلس بعد وقائع يطول ذكرها، وصار ملكاً للعرب الملثمين. وكان قد ظهر لأبطال الملثمين ضربات بالسيوف تقد الفارس، وطعنات بالرماح تنظم الكلاء، وكان لهم بذلك ناموس ورعب في قلوب المبتدئين لقتالهم، وسموا ملثمين: لأنهم كانوا يلثمون، ولا يكشفون وجوههم. وسبب ذلك على ما قيل إن حمير كانت تلثم لشدة الحر والبرد، يفعله الخواص منهم، فكثر ذلك حتى صار يفعله عامتهم. وقيل سببه أن قوماً من أعدائهم كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابوا، فيطرقون الحي، ويأخذون المال والحريم، فأشار عليهم بعض مشائخهم أن يبعثوا النساء في زي الرجال إلى ناحية، ويقعدوا لهم في البيوت ملثمين في زي النساء، فإذا أتاهم العدو، وظنوا أنهم النساء، خرجوا عليهم، ففعلوا ذلك، وثاروا عليهم بالسيوف، وقتلوهم، فلزموا اللثام تبركاً بما حصل لهم من الظفر. وقال الشيخ الحافظ عز الدين بن الأثير في تاريخه الكبير: وقيل إن سبب اللثام أن طائفة منهم خرجوا. مغيرين على عدوهم، فخلفهم العدو إلى بيوتهم، ولم يكن بها إلا الشيوخ والصبيان. فلما تحقق الشيوخ مجيء العدو لهم، أمروا النساء أن يلبسن ثياب الرجال، ويلثمن حتى لا يعرفن، ويلبسن السلاح. ففعل ذلك، وتقدم الشيوخ والصبيان أمامهن، واستدار النساء بالبيوت، فلما أشرف العدو ورأى جمعاً عظيماً، وظنوا رجالاً، وقالوا: هؤلاء عند حريمهم يقاتلون عنهن قتال الموت، فالرأي أن نسوق النعم ونمضي، فإن اتبعونا قاتلناهم خارجاً عن حريمهم، فبيناهم في جميع النعم من المراعي، إذ أقبل رجال الحي، فبقي العدو بينهم وبين النساء، فقتلوا من العدو كثيراً، وكان من قبل النساء لهم أكثر. فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنة، ولازموا ذلك، فلا يعرف الشيخ من الشاب. ومما قيل في اللثام: ضعفاء، فلم يقدروا يقاومون الملثمين، فأخذوا البلاد من أيديهم من باب تلمسان إلى ساحل البحر المحيط. فلما حصلت البلاد لأبي بكر المذكور، سمع أن عجوزاً في بلاده ذهبت لها ناقة في غارة، فبكت، وقالت: ضيعنا أبو بكر بن عمر بدخوله إلى بلاد المغرب، فحمله ذلك على أن استخلف على بلاد المغرب يوسف بن تاشفين المذكور من أصحابه، ورجع إلى بلاده، وكان يوسف رجلاً شجاعاً، مقداماً عادلاً، فاختط بالمغرب مدينة مراكش - كما تقدم - وكان