للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال: هو مجود، ولولا أنه اشتغل بالعبادة مع الصوفية لكان في الفقه إماماً وفي الخلاف كاملاً. قال الراوي: وكان حاضراً فقلت له: طريقته هذه غير ملومة ولا مكروهة، فقال لي:

كان الشيخ - يعني جده القاضي حسين الطبري المذكور - يكره ذلك ويقول: اشتغال العالم بالعبادة فرار من العلم فأعجب، أو قال: أعجب زيد بهذه الحكمة. وقلت: هذا صحيح، لأن الحرص في العلم يقوم مقام العبادة، ولو كان فيه بعض قساوة انتهى، وهو بعض كلامه، وذكر بعده ما يوافقه من أقوال بعض الفقهاء. قلت ولا شك أن فضل العلم وشرفه معروفان، ولكن الشأن في إخلاصه والعمل به، فإذا حصل ذلك فهو النهاية، ومع هذا فأحوال الناس مختلفة، وقد قسمتهم في كتاب الإرشاد على خمسة أقسام، وليس إطلاق الكلام في الندب إلى إحدى الطريقين صحيحاً، بل لا بد من تفصيل، فمن كان له نية صحيحة في العلم ونجابة في الفهم، ولم يغلب عليه أحوال الرجال المشاهدين لنور الجمال، فلا شك أن هذا يندب له المبادرة وبذل المجهود في الاشتغال بالعلم، مع مزج ذلك بشيء من العبادة ولزوم سيرة السلف من التعفف والتورع والتقلل من الدنيا، وإن كان في ذلك ما ذكر من بعض القساوة، فقد أنصف في ذلك، وأما من لم يكن كما ذكرنا إما لعدم صلاح النية وإما لعدم القابلية، وإما لخوف كثرة الآفات في المخالطات، وإما لإمتلاء القلب بمحبة العبادات واستئناسه بالمناجاة في الخلوات، وإما لورود الأحوال ووجود المشاهدات، أعني مشاهدة نور الجمال واستيلاء هيبة العظمة والحلال، فكل هؤلاء واقفون مع ما ورد على قلوبهم، لكلى قوم مشرب وفي الهوى مذهب، ولقد أحسن قائلهم.

كانت لقلبي أهواء مفرقة ... فاستجمعت إذ رأتك العين أهوائي

تركت للناس دنياهم ودينهم ... شغلاً بحبك يا ديني ودنياي

ولقد وقع بي في ابتداء اشتغالي بالعلم خاطر أن ألقياني في مجاذبتهما: أحدهما يجذبني إلى العلم طلباً لفضله، والآخر إلى العبادة لوجود حلاوة فيها وسلامة من آفات المخالطات والتشتت في البحث والمجادلات، واشتعل في باطني مثل النار في القريحة المحرورة للمجاذبة المذكورة، ثم حصلت والحمد لله إشارة أذهبت عني ذلك الاحتراق، مردتني إلى التسليم إلى ما سبق به القضاء بتقدير الخلاق، وذلك أني في حال تلك الشدة لما قلقت، ولم أستطع نوماً ولا قراراً، ومعي كتاب أطالعه ليلاً ونهاراً، فتحته في ذلك الوقت فرأيت فيه ورقة قابلتني أول ما فتحته ولم أرها قبل ذلك مع طول ما طلبته، وفيها أبيات ما كنت سمعتها، وهي:

<<  <  ج: ص:  >  >>