أحدها: هو تصوير لما قال من قبل، فإنه لو قال: هو أعلم بمن فعل كان القائل من الكفار يقول: نحن نعلم أموراً في جوفِ الليل المُظْلمِ، وفي البيت الخالي فكيف يعلمه الله؟ قال: ليس علمكم أخفى من أحوالِكم وأنتم أَجِنَّة في بطون أمهاتكم، فإنّ الله عالمٌ بتلك الأحوال.
الثاني: أنه إشارة إلى أن الضالَّ والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله فإنه عَلِمَ الحق وأنتم في بطون الأمهات فكتب على البعض أنه ضال، وكتب على البعض أنه مُهْتَد.
الثالث: أنه تأكيد لبيان الجزاء، لأنه لما قال:{لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ} قال الكافرون هذا الجزاء لا يستحق إلا بالحشر وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيدٍ من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط، وذلك غير ممكن فقال تعالى هو عالم مماذا أنشأكم فيجمعها بعد ذلك على وفق علمه كما أنشأكم.
فصل
العامل في (قوله) : «إذْ» يحتمل أن يكون «اذْكُرْ» فيكون هذا تقريراً لكونه عالماً ويكون تقديره هو أعلم بكم. وقد تم الكلام ثم يقول: إن كنتم في شك من علمه بكم فاذكروا حال إنشائكم من التراب. وقد تقدم الكلام على قوله:{خلقكم من تراب} بأن كل أحد أصله من التراب، فإنَّه يصير غذاء، ثم يصير دماً ثم يصير نطفة.
فإن قيل: لا بدّ من صرف قوله {إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} إلى آدم، لأن قوله:{وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} عائد إلى غيره، فإنه لم يكنْ جنيناً. وإن قلت بأن قوله تعالى:{إِذْ أَنشَأَكُمْ} عائد إلى جميع الناس فينبغي أن يكون جميع الناس أجنة في بطون الأمهات وهو قول الفلاسفة؟
فالجواب: ليس كذلك، لأنا نقول: الخطاب مع الموجودين حالة الخطاب، فقوله:{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} خطاب مع من حَضَر (وقت) الإنزال وهم كانوا أجنَّةً، وخلقوا من الأرض على ما قررناه.
قوله:«أجنة» جمع جنين وهو الحمل في البطن لاستتاره. و «جَنِينٌ، وأَجِنَّة» كسَرِيرٍ وأَسِرَّةٍ.